صدقية الشعر في شعرية الصدق

قراءة في ديوان (لا مأوى أيتها الغيمة)

د. سمير الخليل

         في المجموعة الشعرية (لا مأوى أيتها الغيمة) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية – بغداد 2017، للشاعر “ماجد الحسن” وجدنا أن التجربة الحياتية للشاعر تجسدت في شكل صور حسية، وكم كبير من الاستعارات والكنايات وهي تتدافع لتصنع لنا قصائد نثر عذبة، تقطر صدقاً وأصالة لأنها غرفت من بئر التجربة الحياتية المبتلاة بالعطالة والعطب وعدم جدوى النهايات، فالنهايات –عادة- تجلل بالنتائج وحصاد السنين، لكن الخذلان – الذي لا يشفى- قد رافق ذلك العمر فحل الجدب والبوار، وحانت ساعة الحقيقة، لا يوجد غير قبض الريح والفراغ الذي يشبه الثقب الأسود الذي لا نهاية له، وليس هناك في العمر بقية، فهل ينفع الانتظار؟ هل يخفف الندم من غلواء الخسارة؟ ومن أين تأتي الغيمة بماء الحياة؟ ومن أين يأتي المأوى بالشروط المواتية للنماء والإخصاب؟

         لقد شكلت القصائد في مجموعها رسائل بوح ونجوى وعزاء قل نظيره في الشعرية العراقية المعاصرة، وكان صوت الشاعر واضحاً، صادحاً، شجاعاً في فرش بكائياته وشكواه أمام القراء : ((لماذا تصرين على المسك هذه الليلة؟ / لقد أودعت ثماري تحت سرير متهرئ/ أسرجي بقايا دمي سيطيب لك لهيبي/ يكفي في هذا الوقت/ أن أحفر أشلاء الجمرات/ ويكفي ليديك أن تطارد رمادي /…/ ترفق أيها الليل/ لا تنبشى بأجسادنا غريزة الحفر/ القمر الذي تهمس إليه رسائلنا / ما عاد إلا جنازة بلهاء/ …/ أ- المرئي: فراغ يشيّع غبطته تحت عباءة الليل/ ب- اللامرئي: جسد يستدرج شهوة الفراغ/ هل حقاً أن الحقول لا تدلك على الحصاد؟/ حنط الغيم في تقاويم القش)) (ص45، 47، 48).

         إنَّ مع التركيز على “الصدق” بدلاً من الصلاحية، يتحاشى الشاعر الافتراضات المهيمنة على الشعرية المعاصرة، ويناقش النقاد الآن “الصدق” فقط ضمن علاقته بالتوكيدات أو الأطروحات التي تشتمل على علاقات توكيدية، وإذا سلّمنا بهذه المقاربة، يكون الشعر ذاته في موقف لا يحسد عليه، وليس بمقدورنا أن نعد الشعر صادقاً لأنه كثيراً ما يستعمل عبارات زائفة أو يصف حالات غير متوافقة، وبذا لا يكون مؤكداً أو غير مؤكد، بالمعنى الضيق للكلمة. ولإنقاذ الشعر من الوضع المنطقي للكذب، يمكن إضفاء شيء من الأخلاقية عليه من خلال الزعم أن الشعر “لا يجزم بشيء” ولهذا فإنه ” لا يكذب أبداً” . ولأجله يقال عن الشاعر ببساطة أنه لا يؤكد عباراته ، أي أنه لا يزعم أن لها أية مصداقية، وبهذا ينتزع الشعر من حقل المساءلة، أي من الموقع المسؤول عن آثاره الفاعلة، ليوضع في حقل اللعب الحر، مع الحرص على مراقبته من مسافة نزيهة، فليس هناك من مسوغ لاستبعاد الموقف الوسط بين اللعب الحر والجبرية الثقافية، ولا ينبغي للقارئ أن يخلط بين الاشتراط الثقافي والقبول اللاواعي لمعايير قضية معينة وقيمها.

         وهناك “وهم الصدق” أي الوهم الذي تتحدث فيه مادة الشعر إلى نفسها، وتستعمل الوسائل الشعرية الأخرى للغرض نفسه، وهي تشتمل على “التسميّة” (أي استعمال مفردة واحدة، مثل مفردة العطالة أو الخواء للدلالة على مجموعة من الأفعال). والحذف (إذ يجد الشاعر أن العبارة المنفية نادراً ما تستخدم في الخطاب الشعري الذي يقوم بإنجازه)، ثم الاستعارة والكناية، ونظراً إلى أن استعمال الوسائل اللسانية يعد جزءاً ضرورياً من الشعر، يعبّر الشاعر – عادة- عن تعاطفه مع “الصدق” بوصفه بنية لسانية فضلاً عن كونه إشارة أصيلة لما هو حقيقي وواقعي في حياته الشخصية، بالرغم من أن الحقائق لا توجد بحد ذاتها، فهناك زيف كثير له صلة بادعاءات الحقيقة والواقعية، وإن الإشارة إلى أن شيئاً ما قد حدث هو محض إيحاء لحدوث الحدث، ولم يعد هناك شيء مثل “الصدق” الذي تحال إليه الكتابة الشعرية، بل أن الأساس الوحيد لتفسير الواقع الخام المعاصر هو مفهومية التفسير القرائي نفسه، فلماذا تكون بعض التفسيرات مرجحة أكثر من غيرها؟ ولماذا يكون بعض النقاد محددين، للوهلة الأولى، بما يقولونه أكثر من الشعراء؟ ولماذا يمكن أن تتحوّل بعض العروض النقدية إلى عروض زائفة، وتهريجية؟

         ولكي لا نقع في منطقة المشروع الذاتي الراديكالي الذي يفسح المجال أمام قول أي شيء على الاطلاق عن النص الشعري، يمكننا الإجابة عن تلك الاسئلة بتأكيدنا على وجود محددات ضرورية تفرض على المقاربة النقدية، وهي :

  • الاستنفادية: أي القدرة على استنفاد دلالات النص جميعاً.
  • تحديد منطلقات الرموز النصية وكيفيات انبثاقها في بدايات النصوص.
  • المحدد الحاكم الموجود في صلب اللُّغة النقدية، وهو الذي يحدد الاتساق الباطني لزخم الأفكار النقدية.
  • إن سياق المعنى الذي يوضع فيه النص، يأتي من الناقد وليس من النص وحده.
  • رفض القراءة السايكولوجية التي تحدد معنى النص تحديداً دقيقاً عبر مقاصد الذات، أي الشاعر أو المؤلف.
  • لا يكون النص موجوداً وحاضراً إلا في حوار بين النص والمؤول (القارئ). ولا يعد توقع “الصدق” فرضية مؤكدة لذاتها، إذ يتم في أثناء عملية القراءة توثيق الأفهام السابقة التي يقاربها النص في البداية، أو تكذيبها، وذلك عبر حوار القارئ مع النص، وتشير قدرة الفهم لدى القارئ على تصحيح ذاته إلى إدراك الحقيقة إلى حد ما، وإن حقيقة الشعر تمتلك طرقاً ناجحة لتجنب الخطأ في التأويل، وهي حقيقة تزود الشعر بالدلائل الظاهراتية لإدراك إمكانية حقيقة الموضوع وصدقيته.

     من خلال هذه المحددات الضرورية نفهم أن حياة الشاعر الخاصة (والمؤلف عموماً) هي المادة المكبوتة في حياته الذهنية، فهي أرشيفه السري. لذلك لا يمكن ببساطة نسيان “الذات” ولواعجها، لأن النسيان، مثلما يعترف بذلك الألماني “فردريك نيتشه”: ((هو عملية كبت، لا عملية تحرير، نابعة عن إرادة)). وإن أي نسيان للواعج الذات سيثور في يوم ما، وينفجر ويخرج من قمقمه مثل عفريت علاء الدين، متمرداً على ذلك الكبت المرهق الطويل: ((هذا ما أسمّيه العطب أو النسيان/ فلا سحاب عندي)).(ص16). ((فليس هناك/ قمر أرسمه على حائط مملكتي/ فلم يعد لدمي عروش أو مناديل أو أصدقاء/ بل وداع يحرث غروباً عاطلاً)).(ص17). ((صمت يدون حراساته على ينابيعي)). (ص19). ((حرب اكثر فطنة من شهوة عاقر)).(ص21). ((عاطل وهو يستفز الجسد)).(ص22). ((كيف أستنطق قامة عاطلة؟)).(ص23). ((فائض الرماد)). (ص23). ((يسخر من سرير بلا مطر)).(ص27). ((لا مكان للأطفال في سرير يستنطقه الدم)). (ص44). ((في زحمة الغيم/ أدرك يباسه ولم يعتذر للحقول)). (ص75).((وأتخيلك سريراً يملأ فمه الغبار)).(ص73). ((من أين لها اخضرار سيركض باسمها؟)).(ص99). ((ينام النهر وليس من سرب سيوقظه)). (ص100). ((هو وحده ظل يبكي تحت صفصافة)).(ص101). ((في النهار أخبيء دمي/ وفي الليل تسهر جثة عاقر)).(ص106).

لقد طالت “العطالة” معظم عناوين القصائد: نهار عاطل، عطل، تقاويم عاطلة، ربما السأم، متحف الوقت، حراثة الوقت، تحنيط، كمن ينتظر ظلاً، لا أقتفي أثراً، شبح.. الخ. ووصلت أو شملت حتى العنوان الرئيس للمجموعة (لا مأوى أيتها الغيمة) فالاستعارة هنا تعمل على تشخيص “الغيمة” بوصفها الماء المنتظر أو الماء الدفين أو البلل الأول أو الرطوبة التي يحتاجها الرحم بوصفه مأوى لكل نزول أو دخول. إن هذا التشخيص بشكل واع أو غير واع يؤكد لنا حقيقة “العطالة” التي أصابت الغيمة والمأوى، وهذا كاف لتخفيف حدة التباعد الاستعاري بين الطرفين، وتكثيف التلاقي في نقطة واحدة: الجفاف أو العقم أو الخذلان، فالصورة الحسية للعنوان تتحقق عندما يحدث الانتقال من الكائن المحسوس (الغيمة) الى الشيء المحسوس (المأوى) لإنجاب دلالة ثاوية (لاشيء). هذه الدلالة الثاوية هي الدلالة الشاملة المشتركة لكل قصائد المجموعة وقد عوّل الشاعر على إبرازها كبعد مادي، ثم كبعد رمزي يشكل فضاء القصائد ومحتواها بعد أن غادرت تجريديتها اللسانية – الذهنية.    

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة