اسئلة الوجود في “النوم في محطة الباص”

علي سعدون

يعمد النقد الى مساءلة النصوص الشعرية باعتبارات قدرة الاخيرة على الازاحة التي تعبث بالمعنى ولا تشذ عنه. ولأجل هذا العبث بالمعنى تكون اسئلة النقد “العاقلة” في دائرة نشيطة من التساؤل المنتج بطبيعة الحال امام تشظي وجنوح الشعر نحو الخيالات الخصبة او محدودة التأثير. هذه واحدة من ارهاصات تعالق النقد مع النصوص بشقيها (المنتج وغير المنتج)، وربما لأهميتها يقع الشعر في دائرة من دوائر المعرفة. بامكننا ان نقول ايضا ان الشعر الذي لا يتساءل بالتركيز على اهمية الاسئلة – وجودية كانت ام غير وجودية –  لا يتوفر على قدر من المعرفة اللازمة التي تتيح للقارئ التعامل معها باعتبار ان النص وسيلة من وسائل المعرفة اضافة الى وظيفة الامتاع التي يوفرها الشعر للقارئ.

وهذه بتقديري الشخصي، علامة من علامات قصيدة الشعر بدرسها الكلاسيكي ودرسها الحديث. شكل القصيدة ومضمونها هاجسان يتفاعلان مع الروح المنتجة للعمل الشعري وهو ما يميز اداء هذا او ذاك من شعراء عصرنا. واعتقد جازما ان معظم هؤلاء الشعراء، يعكفون على حشد اكبر قدر من الاسئلة في نصوصهم الشعرية حتى يخيل اليك انها واحدة من اهم ستراتيجياتهم في الكتابة.، ولا غرو اذا ما تذكرنا انهم مجبولون على القلق الذي يخضب تجربتهم بنوع من السعي والتطلّع الى المعرفة، وهو اداء رئيس في الجهد الذي يقود الى فهم الشعر والتبصّر فيه حد اعتباره من اهم وسائل المعرفة والتفكّر والتعبير، وربما ايضا من ضرورات الحياة.. حيواتنا التي تريد ان ترى الى نفسها في القصيدة. 

شرطا التساؤل والامتاع من خلال لغة الشعر هما القول الفصل في أهمية مضمون النص بتواشجه مع تطلعات افق القراءة وما يمكننا من اعادة انتاج المادة الشعرية والتفاعل معها.. وعلى ضوء ذلك يمكننا فهم النصوص وتأويلها وتحديد قوة معناها وندرته، تبعا لأهميتها، لا تبعا للقراءة النصية التي ستأخذ بأيدينا الى الاحصاءات والاسلوب وطريقة الاداء في النص. مناسبة هذا التقديم هو قراءة مجموعة “النوم في محطة الباص” للشاعر عبدالخالق كيطان التي اعتمدت الانفتاح على السرد بصورة واسعة كعلامة فارقة في ادائها.، مثلما اعتمدت الاسئلة المصيرية الحرجة مسافة للتفكير في ثيمات النصوص والارتقاء بها انزياحا وسردا ومذكراتٍ تلامس بطريقة او بأخرى الاشتغال على نوع من انواع السيرة الذاتية.

ما يحيلنا الى مثل هذه الرؤية هو الاهتمام البالغ باليوميات وبالتفاصيل الدقيقة من حياة المرء وهو يتحول امتثالا لتحولات الحياة نفسها : الهجرة والمنفى، طبيعة تجوال الانسان الشرقي تتبعه ذاكرة مشبعة بالألم ومؤثراته طويلة الامد، سيرته الذاتية التي تبزغ من خلال النصوص حتى وان كانت غير مقصودة وهي ليست هدفه الرئيس في النص. ذلك انها تطالع نفسها في مرآة الاخرين كلما ازفت لحظة للتأمل في الخيبة او الفرح. وبالتالي فان نصوص هذه المجموعة كانت تصنع لنفسها مشهدية سردية مكثفة ولا تهتم كثيرا في صنع العبارة الشعرية الواحدة في الجملة. وهو اداء تشيعه النصوص السردية وتقف فيه نصوص كيطان بمقدمتها. الامر ذاته كان قد اشتغل عليه في مجموعاته الشعرية السابقة : نازحون، صعاليك بغداد، واحد وثمانون .. الخ. وقد كانت علامتها الشكلية هي السرد الذي يقود الى شعرية مشهدية لا شعرية ابيات او عبارات نصية : “رأيت في المرآة امرأة تشبهني/كل الرجال الذين اشتهوا اصابعها مرة، ذابوا/ كنتُ اريد الوصول الى الشجرة في اقل تقدير/ وكان هذا محال/ المرأة تعرّت في المرآة / سقطت اسنانها بغتة/ وهطلَ لحمٌ كثيف على الارض/ اين وعودك التي بذلتها على الطرقات؟/ لقد كانت القصة سهوا. المجموعة ص8 إذ يتضح ان المشهدية هي العمود الفقري لبناء النص في شعر عبدالخالق كيطان، انفتاح بمقصديات المعرفة والحكاية وتدوين التاريخ الشخصي. وهي ادوات وطرق للكتابة قد تثمر في نهاية المطاف في ترسيخ اسلوبيات للكتابة التي تريد ان تنتظم في طريقة للتجديد والخروج عن الأنماط السائدة.  

قلنا ان المجموعة كانت قد انشغلت في الاسئلة الحرجة، ففي النص الاول يختص السؤال بالخيانة : اين وعودك التي بذلتها على الطرقات؟ فيما سيجيئ السؤال في النص الاخر عن الملل والسأم والحياة المكررة من خلال فوتوغراف ينز منه تاريخٌ طويل للعلاقة الفاشلة بين الرجل والمرأة : الم اقل انه كاتب بائس ذلك الذي حشرنا في كتابه؟  25ص : ثم يتماهى في الاسئلة ايضا الى حد التساؤل عن الناجين من الموت وضمير المخاطب يختلط بضمير الاخر وكلاهما يتساءلان عن النجاة التي تشبه الموت في القصيدة. النجاة التي تشبه الوجود والعدم في اسئلة حرجة مبعثها القلق الوجودي والفناء الذي يملأ الازقة والدرابين، درابين البتاويين على وجه الخصوص ص34  وهذه الاسئلة بتقديري تعمل على سبر اغوار الحالات الشعورية التي يتوفر عليها منتج النص من خلال حفريات اللغة والانزياح وتشكيل المشهدية الشعرية التي تفترق عن بناء النص من خلال العبارة الواحدة. هذه الاسئلة التي تضج بها نصوص قصيدة النثر العراقية، هي واحدة من علامات الافق الثقافي التي تصنعها بوعي وبروح مغامرة. انها حالة من حالات التعالق المعرفي الذي تخضّبه الشعرية بالتأمل والانزياح والبناء المغاير. وقد وردت في المجموعة تعددية في الرؤية التي تقول بقراءة الواقعة الواحدة برؤية متعددة مبعثها “سارد النص” ثم يعقبه، باثٌ اخر وهكذا. وتعد هذه التقانة من التغايرات التي تعتمدها قصيدة النثر العراقية ما يجعلها نصا واعيا وذا قدرة على صنع الابداع الشخصي في نص معقد يحتاج على الدوام تجديد طرائق انتاجه للشعرية كمفهومٍ آخذ بالتصاعد والانفتاح على تقانات جديدة لم تكن الشعرية قد انفتحت على مثلها في العقود الغابرة.   

  • النوم في محطة الباص، عبدالخالق كيطان ، شعر، دار الورشة للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد 2020

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة