جمال جصاني
المشهد العام ولا سيما الاعلامي منه يعيدنا مرارا وتكرارا الى عبارة فناننا الراحل جعفر السعدي التهكمية “غريب امور عجيب قضية”. كتابات وتغطيات اعلامية وفبركات لقصص اخبارية وتصنيع للمآثر الفاشوشية أقل ما يمكن وصفها؛ انها مثيرة للشفقة. لكنها تحصد عددا من “اللايكات” تقف أمامها أكثر الكتابات عمقا ورصانة مبهوتة ومنكمشة، لتؤكد حاجتنا الملحة (افرادا وجماعات) للحجر بعيدا عن منابر وبؤر ومواقع ضخ هذه الجائحة الميديوية. كما هي قدرات (كوفيد 19) في تعطيل الحواس، تعطل هذه الجائحة حواس المتلقي وقدراته في كشف ما تحمله تلك البضائع الاعلامية من نفايات نتنة تدعي تمثيلها لقيم اغتربنا عنها منذ زمن بعيد. تناولوا خزعة عشوائية عما طفح من كتابات تمجد وتبجل بمفرداتنا المنبوذة عملياً كـ “الوطنية” على سبيل المثال لا الحصر، والحماسة المنقطعة النظير التي ترافقها في الهجوم والتنديد باعداءها التقليديين كـ “الطائفية” وغير ذلك من المفردات الاكثر رواجاً في بازار التداول، وحاولوا التعرف على ما تحت ذلك من رسائل وشحنات موجه لذائقة ما يمكن أن نطلق عليه بـ “الكتلة الاكبر” لجمهور المتلقين، لنجدها تكشف عما سعت تلك المساحيق الغليظة للتستر عليه، الا وهو انها صنعت لدغدغة الغرائز المتدنية وحاجاتها العابرة.
كم هو مؤلم ان تكتشف وبعد مشوار طويل من الآمال والخيبات والاهوال؛ مدى صدقية هذه العبارة الصادمة “الوطنية ملاذ الاوغاد” وتجليها السافر على تضاريس وطنك المستباحة. لاسباب وعلل تطرقنا الى الكثير منها، بتنا نحذر من استعمال ما يتضمنه قاموس الوطنية والديمقراطية والحداثة من مفردات واصطلاحات، كي لا نجد انفسنا الى جانب هذا الكم الهائل من حطام المعطوب والمذعور والممسوخ لغويا وقيمياً، بعد ان تداخلت الصفوف والتبست المفاهيم، حيث لا هوية وملامح اصيلة تميزها عن بعضها البعض الآخر. وكما هو معروف فان ارث وتقاليد تقديم السموم المطلية بالعسل، قديمة وراسخة في مضاربنا المنكوبة، وهي اليوم تنقل عدتها ومهارتها وما تراكم لديها من خبرة، الى حيث السرديات والخطابات الاكثر رواجا في وسائل الاعلام التقليدية منها والحديثة، أي كل ما يتعلق بالوطن والديمقراطية والحداثة والحقوق والحريات. فلم يعد المتسلل لهذا الحقل يحتاج الى الكثير من الذكاء والعبقرية كي يبدو كاتبا نحريراً في مجال الدفاع عن هذه العناوين المحببة، يكفيه رشة من منكهاتها ومفرداتها بين سطور ما يثرد مع حفنة من الاستعارات، ليحصد تعاطف جمهور اضاع “صول جعابه” منذ زمن بعيد.
مع مثل هذه الهيمنة للمخلوقات المنتسبة لنادي “طامس ويعوعي”، يمكن التعرف على جانب مهم من علل الحال الذي انحدر اليه ما يفترض انه معسكر لقوى المدنية والديمقراطية والحداثة، في بلد عرف وانتصر مبكراً لهذه المنظومة التي انتشلت سلالات بني آدم من عصور الذل والعبودية والانحطاط. صحيح هو “يعوعي” بتلك الايقاعات والتراتيل والاصطلاحات الجميلة والمحببة، لكن مشكلتنا معه في الكوارث “اللي طامس بيها” والتي يحرص على ابقاءها بعيدة عن متناول جمهور أدمن على سماع ما يحبه ويرضيه. خطورة هذه الشريحة ان غير القليل منها لم يعد يعي ما تحمله كتاباته من تناقض وانفصام، لذلك نجدهم كثيرا ما يستشهدون بمقولات عالمنا الجليل علي الوردي، من دون الالتفات لما يمثلونه (سيرة ونتاج) كعينات انموذجية لبحوثه وكتاباته..