الحدث الذي ليس له نهاية في “بحر أزرق.. قمر أبيض”

د. سمير الخليل

يواصل القاص والروائي “حسن البحار” في سرديته (بحر أزرق… قمر أبيض)، (الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2014)، ما ابتدأه في مجموعته القصصية (الدردبيس/ 2011)، وروايته (مرام/ 2012). وما سيحاول مواصلته في مجموعته القصصية الثانية (الريح تترك فوق الطاولة/ 2017) وروايته الضخمة (النوتي/ 2017)، الموضوع نفسه، والمغامرات ذاتها، والتعاطي مع اللحظات المتطرفة من التجربة الفردية عندما يتحوّل الواقع، كل الواقع، إلى هذيان.

لقد أثبت المؤلف في كل سردياته، قصة قصيرة بعد قصة قصيرة، ورواية بعد رواية بأن النتاج الأدبي الإبداعي ليس صورة طبق الأصل أو محتملة من الحياة المعيشة بل هو شيء مختلف تماماً، إنه انطباع شخصي مباشر للحياة، أو تمثيلات ذهنية تحاول البرهنة على صدق أو نجاح فرضيات أنتجها عقل المؤلف. إنَّ ما يهم المؤلف السردي هو النسق الذي يرجع إليه ويأخذ منه لتجاوز الأجناسية الأدبية أو الشكل الأدبي أو لإيصال فكرة توضيحية أو مفهوم غائم. بمعنى أنْ يكون النص السردي وعاء لفكرة مفاهيمية وليس لقصة. إنَّ الشيء الجوهري في السرد عند “حسن البحار” هي التمثيلات الذهنية وليست التمثيلات الواقعية.

المؤلف بمغامراته السردية- البحرية يحاول أن يفلت من نمطية الكتابة، ونمطية الحياة، فهو يلاحق هدفاً إبتكارياً مستقلاً عن المتعارف عليه في الكتابة السردية، والمتعارف عليه في العالم الخارجي، فالإنتاج الإبداعي –عنده- يوجد حيث يوجد الاختلاف ولا يوجد في التطابق، فإبداع القصص والروايات يعتمد على الحبكة غير الناجزة، والمأزق المعقد غير المحلول، والحدث الذي ليس له نهاية.

الخطاب السردي الذي تعتمده رواية الرحلة (بحر أزرق… قمر أبيض) يستند إلى حقيقتين ذهنيتين عميقتين اجترحهما المؤلف من خلال تجاربه مع فوضى التلوثات واحتكاكه مع الواقع المحترق: ليس هناك شيء ممتع ومبهج ويثير الانتباه ويعطي معنى لعبث الحياة في داخل الوطن، وإنما يوجد الفردوس هناك ينتظرنا في الجانب الآخر من الحدود المرّسمة دولياً. وفردوس “حسن البحّار” يتوفر على ميزتين جذابتين ساحرتين لا يتحصلان في أي مكان آخر هما:

  1.  التسامح الحضاري الذي تتمتع به كل شعوب الأرض ما عدا منطقتنا العراقية أو العربية أو الشرق أوسطية عموماً.
  2. 2-  النساء الجميلات الأنيقات المصقولات بلون البرونز وقد تكاتفت أشعة الشمس السافعة وأوخام البحر على صنعه.

وعن التسامح الحضاري نقرأ: ((كانوا شعباً مسالماً اجتماعياً، لطيف المعشر، طيبين، أغلبهم من الديانة البوذية، يعيشون بسلام مع أقلية إسلامية ومسيحية وهندوسية، يتركون خجلاً على وجوه الغرباء الذين ينظرون إليهم بدهشة فلا يجدون في بلدانهم ما يجدونه هنا)). (ص110). ((اخترقني اليأس قطرة بعد قطرة، أثقلتني الطرق المستحيلة، مضطرب الإحساس قابعاً في محاضن يرشّ في العينين المحدقتين بالجواب: “ما أنا إلا غريب ينتظر يداً تمتد إلى صدره، تقلع قلباً جرحته الأشواك، ضمدته المرافئ، يريد غرز أفكاره بين السحر والجمال، لا لشيء فقط للنسيان)). (ص126).

أما عن النساء الجميلات المصقولات بالأناقة فنقرأ: ((لم أك أعلم أن هناك أرضاً في هذا الوجود بهذا الجمال وهذه الهيئة البهية وتلك الوجوه الحمراء والأجساد البرونزية، إلا لحظة تجاوزي بوابة الميناء)). (ص113). ((هناك نساء نصبت شراك الهوى، حمر ممشوقات تعانق رجالاً لا يقلّون عنهن جمالاً، وهنا فوق الرصيف رأيت عشقاً يترك ظل عناق ورنين قبلات)). (ص113). ((كانت المحال تلتمع من الداخل، والحانات تخرج منها نساء نصف عاريات يقهقهن ضاحكات ناعمات مترنحات وأخريات راقصات فوق صدور رجال تفور مستمتعة)). (ص115 وما بعدها). ((الكل يضحك ويقبّل شفاهاً حمراوات في أجساد مضيئة كالبلور، تتحرك على ألحان تنهض إليها العيون، تتوسدها المهج متسعة تثير في داخلي شعوراً كان غريباً يجعلني خاضعاً للبقاء بمكاني تحت قوة سحرية محاطاً بكل ما يرغب به مثلي ممن يريد الاستمتاع. نساء، نبيذ، جمال، ضحكات، رقص، موسيقى، كل الأشياء كانت رائعة في حرية الطيران، والأروع لا أحد يعرفك على وجه التصرف في الفرح الذي يسهم في التحليق بعيداً عند فضاء مكهرب فوق الطاولات، كنت أحدق بمن حولي كمن يحدق في لوحة كبيرة رائعة الجمال أصيب بالدهشة ضاحكاً مرة وأخرى أعود للإنبهار صامتاً، ولكن ريتا ما زالت تتشكل أمامي واضحة)). (ص116).

إنَّ ما يدفع المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني والسارد العليم، وكلهم يتكثفون في صوت واحد، في (بحر أزرق… قمر أبيض)، بوصفها رواية سيرية أو رواية رحلة في بحار العالم أو رواية يوميات واستذكارات بوح سنتمنتالي (عاطفي مفرط)، أنه يحاول (وأقصد هذا الصوت المكثف) نقل هواجسه ومخاوفه ومكبوتاته الدفينة إلينا عن طريق مفردات تختفي بالبحر بوصفه خزان لغة، لأن كل ما لديه هي السفينة والأمواج والعواصف وطيور البحر والأسماك، وما يحتاج اليه هو استخدام هذه المفردات البحرية كطريقة لتجاوز اللغة –الأم، لغة الكتابة، وسبب ذلك إنَّ الاستعارات الرئيسة في الرواية هي “التحدث مع البحر” واستخدام الصراع مع عواصف وهيجانات البحر كصور توحي بمعانٍ ضمنية. إنه يجاهد في تخطي الماديات الجاذبة لليابسة، لكن الطريقة الوحيدة التي يمكنه بها نسيان اليابسة وهمومها هي الانغماس بالبحر وطبيعته المادية الخالصة ذات اللمسات الغامضة جداً، فمادية البحر هي ليست مادية اليابسة.

إنَّ مشكلة المشاكل في سرديات “حسن البحّار” جميعاً تكمن في مواجهة السارد العليم (وهو مبأر على أنا القصة والمؤلف الضمني وحسن البحّار نفسه كما أسلفنا) كيفيات التعبير عن نوع الحب الذي يكنّه لامرأة واحدة أو لكل النساء اللواتي ينتظرنه على السواحل العالمية، في الموانئ النظيفة المتوهجة بالإنارة الساطعة، وجميعهن من حوريات البحر المغويات المحترفات المصممات لصيد الرجال المكبوتين المحبطين، المتفننات في منح الحب للزبائن عامري الجيوب: ((كانت روحي ترزح تحت ضغط رغبات مكبوتة)). (ص144). ((لم يبق على وجه الأرض في عقلي سوى وجه امرأة تنتظرني عند الجهة الأخرى، قد تجهز الطعام أو تقدم الطلب أو حتى نائمة، أو على دراجتها تسير، واقفة بين الشجرة والظل)). (ص146).

وكيفية التعبير عن نوع هذا الحب: هل هو حب روحي أم حب جسدي؟ (وهذه أثنينية تبعثر نثر “حسن البحّار” وتربك اسلوبه الكتابي وتفتت تماسك عرض الأحداث)، فالروح هي دائماً على المحك في مونولوجات الرواية التي نحن بصدد مقاربتها أو الأعمال التي سبقتها والتي لحقتها، هناك التردد في اتخاذ القرارات بصدد موعد غرامي مع امرأة، وهناك الخشية من شيء ما مجهول، والروح صعب سبر أغوارها، والحوافز الجسدية المفروشة على طول الوقفات الوصفية والمشاهد المكانية ولحظات الإستغراق مع النفس جديرة بالذكر، والأحلام بالإفتراش والمجاسدة حقيقة شبقية بالنسبة لفتى يعشق الجمال، والشكوك القرائية أصبحت معتقدات شائعة عند متصفحي المواقع الالكترونية التي ما أنزال الله بها من سلطان، وذلك الأمر يوضح التطابق بين الروحي والجسدي عند سارد مهووس بالجسدانية (الجنسانية). ولا تسعفنا خاتمة الرواية عندما يختار البطل الإنحياز إلى “ريتا” البوذية الأندنوسية والإرتباط بها كزوجة مفضلاً إياها على مهنته المدرة للمال كمهندس بحري (المهنة التي استقال منها نهائياً)، وهجرة الوطن والأهل والأحبة والاستيطان معها في وطنها. فهذه الإشارة لا توحي إلى إنَّ هناك فعلاً روحياً انتصر على فعل جسدي.

إنَّ نقل الرغبات والأحاسيس الروحية غير الملموسة إلى داخل النص بطريقة تشوبها الغرائز المادية تؤكد على أن المؤلف المعني قد تقبل حقيقة أن لديه –فقط- المادة التي عن طريقها يمكنه نقل الرغبات والمشاعر، وإن كانت مهمة ايجاد الطرق الناجعة لنقل الجيشانات العاطفية قد أصبحت تمثل المشكلة الأساسية لمعظم الكتّاب المعاصرين، لأن ذلك –ونقولها بكل بساطة- مرتبط بمدى نضج الوعي السياسي والإيديولوجي لديهم. فالرواية أو أية قطعة سردية ليست رسالة غرامية بسيطة ومسيطر عليها، نحاول أن نبث من خلالها لواعج دفينة ومكبوتة لامرأة مشتهاة، وإنما هي رسالة ثقافية نوجهها لكل أطياف المجتمع وتفرعاته الجهوية: فالمجتمع ينتظر منا أن ندلو برأينا ونطلق قولتنا، وهو ضليع وخبير بفرز القمح الجيد عن الزؤان الفاسد. ولكن حسن البحّار سيبقى مبدعاً في مجال السرد واستطاع مبكراً أن يشق له طريقاً ويحقق نجاحاً كبيراً بموهبته.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة