العراق بين المحاصصة والأغلبية البرلمانية 2 – 2

علي عبد العال*

بعد أن نأت المرجعية الدينية بالنجف الأشرف بنفسها عن هذا الخطاب السياسي الذي تم إستغلاله من قبل زعماء الطائفة الشيعية بالتحديد، من أمثال أحمد الجلبي وعبد العزيز الحكيم وحزب الدعوة وحرمت المرجعية الدينية إلصاق صور السيد السيستاني بالحملات الانتخابية لجميع اؤلئك السياسيين المنتفعين من بركة الحوزة العلمية والمرجعية بالنجف الأشرف لأجندتهم السياسية الخاصة.
يستغرب الكثير من المؤرخين العراقيين والأجانب عدم مقدرة الشيعة بالعراق وهم يمثلون الأكثرية الشعبية من تكوين حزب سياسي يمثلهم على الصعيد الرسمي ككتلة طائفية متجانسة ذات أبعاد سياسية تحتل مكانتها بالبرلمان كأكثرية شعبية. وفي كتابه «لاهوت السياسة» لرشيد الخيون يوضح الكاتب درجة الصراع بين الأحزاب الشيعية التي أفسدت التعامل فيما بينها في صراعها الفئوي أكثر من صراعها السياسي على الحكم الأمر الذي أدى بها للتشرذم والصراع الخفي، الذي لم يخل من إستعمال السلاح في بعض الأحيان.
يقع هذا المفهوم الشيعي للعمل السياسي الرسمي بين رؤيتين متنافرتين؛ الرؤية الأولى تتمثل بعدم توريط الشيعة بالعمل السياسي العام لما فيه من مفاسد خارجة عن أصول الدين وطقوس العبادة. والرؤية الآخرى تؤيد الدخول بالعمل السياسي والنضال والكفاح حتى السيطرة على الحكم. بين هذين الرؤيتين تشتت الشيعة بالعراق وتفتت عضدهم السياسي. فذهب من لديه الطموح المشروع لكي يعمل بالدولة العراقية بغض النظر عمن يحكمها وخدم الجيش العراقي بقيادة صدام حسين و سلفه الرئيس أحمد حسن البكر وقبله الرئيس عبد الكريم قاسم. الرغبة بالعمل السياسي تتوفر لدى أفراد طموحين بالمجتمع، لا يهمهم الولاء للطائفة بقدر ما يهمهم الولاء للوطن ولطموحهم الشخصي. هؤلاء الرجال من العراقيين الشرفاء هم الذين يحملون الرايات المقبلة، رايات العراق المرفوعة فوق رؤوس الأعداء، جميع الأعداء من الهمجيين المتخلفين الذين جاؤوا بأوامر خليجية مدفوعة الأثمان سوف يأتي اليوم لمحاسبتهم عليها، ومحاسبة شعوبهم الخانعة التي يكنس فضلاتهم البنغاليون والبنغلاديشيون والباكستانيون وغيرهم من الأقوام الفقيرة. الشعب العراقي أوفر خيراً من الشعوب الصغيرة التي تستمرئ العدوان عليه ولديها الرغبة الدائمة بتدميره، وها نحن نعيش ونشهد تلك الأذناب التي تفرز سمومها بالجسد العراقي المثخن الجراح
آفاق التجربة الديمقراطية في العراق الحديث
تبدو واضحة للعيان ملامح التجربة الديمقراطية الحديثة بالعراق حتى هذه اللحظة التاريخية الراهنة التي نخضعها للفحص السياسي العلمي والأكاديمي. هذه التجربة هي مثل جنين معّوق يرقد في غرفة الإنعاش. طبعاً تحت رعاية أجهزة ومختبرات متطورة أميركية وأوروبية لإنقاذ هذا الوليد المعّوق، في حين يحرص ذوو القربى بخنق هذا الوليد «النغل» الذي جاء به الغرب ووضعه على أرض الرمادي والفلوجة وهيت وتكريت ممن لايطيقون العجائب والغرائب الديمقراطية التي تحدث بالعالم المتطور الجديد. التجارب الديمقراطية بالعالم خضعت للكثير من الصراعات والمعارك والحروب الطاحنة بين النمط القديم المتمثل بالنظام الإقطاعي المتحالف مع الأكليروس الديني، وبين الدفق الجماهيري الهادر الذي يريد الحرية والمشاركة بالحكم. لا يمكننا القياس الآن، وفي هذا الظرف التاريخي بالتحديد على مسار التجربة الديمقراطية العراقية ومستقبلها بالمقارنة مع تجارب الشعوب الآخرى، وخصوصاً الدول الإسكندنافية المتطورة بالممارسة الديمقراطية العريقة، ومن ثم التجارب الكبرى بقارة أوروبا التي بلغت من التشريعات التي تتعلق وتمس حقوق المواطنين بالصميم نحو الرفاهية والحريات المطلقة التي لا تخضع للدين بل تخضع للقوانين التي تختارها الشعوب بإرادتها الحرة، فلا يلومها على اختيارها سوى ذاتها فقط.
بيننا وبين العالم الديمقراطي الغربي أشواط بعيدة المدى؛ لا يمكن بأية حال من الأحوال قياس التجربة العراقية على الصعيد الديمقراطي والضوابط القانونية والدستورية التي تثّبت ملامح وشكل النظام المقبل الذي يقرره الشعب بالأخير مع التجارب الديمقراطية العالمية التي يناهز عمرها الخمسة قرون. من هذه الناحية لا يتمتع العراق بجميع مؤسساتة الحكومية بأي صفة ذات طبيعة ديمقراطية حقيقية على مدار أكثر من عقد من زمن التغيير من الدكتاتورية إلى الديمقراطية المزعومة. إنه حقل تجارب مفتوح الآفاق نحو النجاح أو الاخفاق على السواء. ما جرى ويجري بالعراق اليوم هو مجرد حروب طائفية مخفية وعلنية تتغلف بالأطر السياسية الهشة على وجه الخصوص.
نظام المحاصصة الطائفية الذي أفرزته المرحلة الانتخابية السابقة هو نظام، أو منظومة غير دستورية وغير شرعية، الأمر الذي أدى بالنتيجة الحتمية إفساد جميع المرافق المتنفذة بالدولة وجعل من حكومة المالكي مجرد حكومة طائفية لا تمثل مصلحة العراق والعراقيين على قدم المساواة بالقدر الذي تمثل مصالحها الذاتية الخاصة ومصالح المشاركين فيها الضيقة الأفق. الدلائل والمؤشرات السياسية الراهنة تشير بشكل واضح إلى فشل العملية الديمقراطية بالعراق الحديث. النتيجة تتعلق بالسبب. السبب يكمن بعدم نضوج النخبة السياسية العراقية ببلوغ المفهوم الديمقراطي للحكم مهما تنطع من الرجال الذين يحكمون العراق اليوم. هذا إذا كلنت هناك نخبة سياسية حقيقية متبلورة المعالم بالعراق الحالي.
منذ اللحظة الأولى لتغيير النظام الدكتاتوري كان يجب على النخب السياسية تنصيب السيد عدنان الباججي كرئيس للوزراء كونه سياسيا أكاديميا محنكا. لكن تم طرده من المعادلة كما يتم طرد المهندسة العراقية الفذة والعالمية السيدة زها حديد من المرفق العلمي والثقافي لوجه العراق الحديث. العراق الطائفي المتخلف الحديث لا يريد ولا يرغب بالعلم والعلماء، أنه يرغب برجال دجالين ولطامين وطبارين على الرؤوس وأطفال يقيمون المواكب على الطرقات الشاسعة من البصرة حتى كربلاء. وقد عطّل سماحة السيد عبد العزيز الحكيم صدور الدستور العراقي فترة شهرين لكي يثبّت فقرة تتعلق بإقامة الطقوس الحسينية وتدوينها بالدستور الجديد. ليست هذه بدولة قانون وليست تلك قوانين تحكم جميع العراقيين على السواء. تبعات هذه الرغبات التي يمليها زعماء الطوائف بغض النظر عن مشروعيتها وعدمها، كان هو الطريق الأمثل لتفتيت المجتمع العراقي عامة والطوائف الشيعية والسنية خاصة. وبذلك تحول العراق إلى ساحة صراع وقتال بين مكونات الشعب ذاته. على الرغم من زعم الجميع من رجال الدين والناس الطبيعيين أن لافرق بين السنة والشيعة إلى آخر هذه المزاعم ذات النيات الحسنة، البعيدة عن الواقع.
لم تستطع العملية الديمقراطية الحديثة بالعراق تجاوز هذه المعضلة الكبيرة والحقيقية بين صفوف الشعب العراقي المتمثلة بالكارثة الطائفية. بل على العكس، تم تكريسها سياسياً إلى درجة أثارت الكثير من ردود الفعل العنيفة على صعيد التفجيرات العشوائية والاغتيالات السياسية والتصفيات الدموية. هذا بالتحديد ما سوف تسفر عنه الاجراءات غير الشرعية وغير القانونية وغير الدستورية التي تمت بالأمس القريب بالإلتفاف على الدستور وبنوده. العراق مقبل على مرحلة حرجة لا تبشر بالخير. المنظومة الديمقراطية بدءاَمن تصويت الناخبين وصولا إلى التنصيب، تم التلاعب بها وبقواعدها الواضحة قبل أربع سنوات ويتم اليوم إستعادة هذا التلاعب بالمقلوب. النتائج والآثار السلبية لهذه الأخطاء الدستورية الجسيمة سوف تطفو على السطح المتعكر أصلا، بالقريب العاجل.

*كاتب عراقي من أسرة الصباح الجديد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة