ثقافة الصحراء

مع أنني أنفقت سنوات طويلة من عمري في الصحراء، أتنقل من ربع إلى ربع، ومن كثيب لكثيب، ومن واد لواد، بحثاً عن الكنوز المخبأة في باطن الأرض، إلا أنني لم أفطن يوماً إلى أن العربي يمتطي راحلته، فرساً كانت أو ناقة أو أتاناً، من جهة اليمين. ما شاهدته على الشاشتين الصغيرة والكبيرة كان عكس ذلك تماماً. فالفرسان الغربيون أو ممثلو الأفلام اعتادوا القفز على خيولهم من الجانب الأيسر. في ما بعد، حينما تحولوا إلى ركوب السيارات، فضل بعضهم الولوج إلى سيارته على الطريقة العربية.
ولا اعلم على وجه اليقين صلة هذا الموضوع بالثقافة، أو علاقته بالتاريخ الغابر. ولكني لا أستبعد ذلك. صحيح أن الخط العربي يبدأ من اليمين. لكننا لسنا وحدنا الذين يفعلون ذلك، فالآسيويون جميعاً يكتبون بهذا الشكل.
في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» يشير لورنس الملك غير المتوج في الجزيرة العربية في العقد الثاني من القرن العشرين، إلى مثل هذه التناقضات بين الثقافتين الغربية والشرقية، إلى درجة أن الأوربي الذي كان يحط رحاله هناك يحتاج إلى وقت طويل حتى يعتاد على هذا الوضع. ولكنه لن يستطيع أن يفهم لم لا يخلع العربي عقاله أو غطاء رأسه إذا دلف إلى منزل ما مثلما يفعل هو، بل يقوم بدلاً من ذلك بخلع حذائه.
والواقع أن هذه العادة جاءت في الأصل امتداداً لعادة خلع الحذاء في المساجد والأماكن المقدسة. فهي ذات بعد ديني بحت. والحذاء بقدر أهميته إلا أنه لا يحظى بالاحترام لدى العرب. وربما لم يلحظ لورنس ذلك لأن البدو في الحقبة التي هبط فيها على الجزيرة – باستثناء الموسرين منهم – كانوا يسيرون حفاة الأقدام تماماً.
و لهذا الموضوع صلة واهية بثقافة البدو، لأنهم كانوا يعانون من العوز الشديد، الذي يفرض تقاليده في كل مكان يحل فيه. حتى أن المستكشف الشهير ثيسيغر نشر في أواخر الأربعينات صوراً لبعض الشبان الذين رافقوه في رحلته في الربع الخالي وهم شبه عراة. وليس من عادة البدوي أن يسير بهذه الطريقة، إلا إذا لم يكن يملك ما يستر به عريه هذا.
ولم يعش لورنس ليكتشف بنفسه أن هذه العادات تغيرت بعد حوالي نصف قرن. وأن البدو الذين قصدهم في كتابه لم يعودوا قادرين على السير حفاة. فقد اغتنوا بعد فقر طويل. ولم تعد «ثقافتهم» الجديدة تسمح لهم بتعريض أجزاء من اجسامهم للأذى. ولكن ثيسيغر أدرك هذه الحقبة قبل أن يتوفاه الله عام 2002.
لقد تحول أولئك البدو الفقراء إلى شبه حضر، وربما هم في طريقهم للتخلي عن أسلوب حياتهم القديم، والانتقال إلى شكل جديد للعيش في المدن أو الأرياف. فلم تعد السكنى في القفار تلائم مزاجهم أو تستهوي أفئدتهم في القرن الحادي والعشرين!
محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة