كه يلان مُحَمَد
تتحايلُ السلطةُ لتطويعُ كل المعطيات المتوفرة لتعزيز هيمنتها وخدمة أغراضها التوسعية وهذا مانبه إليه كل من أنطونيو غرامشي وميشل فوكو حيثُ أكد الأول على دور المثقفين المندمجين في جهاز السلطة لترسيخ مدامكها، وأشار صاحب (الأشياء والكلمات) إلى دور المعرفة في تغول الرقابة السلطوية وترسيخ مدامكها في فضاءات مُجتمعية فوق هذا فإنَّ السلطة ترومُ إستدراج الجميع إلى حقل مرويتها التاريخية بحيثُ تَعْمَلُ على تعتيم الخطابات المُغايرة وإقصاء الرؤى المُختلفة لما دُون في مضان سُلطانية،ولكن هناك دائماً سؤال بشأن ماهو مطمور في سياق التاريخ الرسمي والسبيل لإضاءة مرويات منزوية في العُتْمة.
قد يكون الدافعُ الأساسي وراء تأليف الروايات التاريخية هو صياغة ما إعتبرته النخبة الحاكمة هباء المعني في قوالب سردية مُفارقة لسرديات السلطة.إذ تنزلُ رواية (شغف) الصادرة من الدار العربية للعلوم وناشرون ط2017 للكاتبة والروائية المصرية (رشا عدلي) ضمن محاولات إستنطاق ماهو مسكوت عنه في التاريخ
غرام الإمبراطور
تقوم أحداث الرواية على مُقاربة زمنين مفصلين الأول هو زمن حملة نابليون بونابرت على الشرق وإحتلاله لمصر والثاني زمن مابعد ثورة 25 يناير في مصر وتتناوبُ وحدات مُعبقة بوقائع زمنين على مساحة الرواية،هذا وتتخللُ في تجاويف الرواية جوانبُ من حياة البطلة (ياسمين) ومايشبه العقدة لديها من علاقات عاطفية عقب إنتحار أمها عندما تصطدم بمعرفة خيانة زوجها مع صديقتها المقربة.وما تطلق الجولة السردية لإستعادة تفاصيل وقائع غزو نابليون لمصر هو عثور ياسمين على لوحة أحيلت إلى قسم الترميم في كلية الفنون.وبما أن البطلة هي مُتخصصة في تاريخ الفن لذا فمن الطبيعي أن تثير لوحة الفتاة إهتمامها،وتنقب عن هوية صاحبها الأمر الذي يستدعي الإشارة إلى حادثة حرق المجمع العلمي المصري في 16/كانون الأول 2011 التي قد أُتلفت على اثرها كثير من الوثائق والمخطوطات وما خرج من النار نُقل إلى مخزن متحف الجيزة.ومن هنا تبدأُ رحلة البحث التي تنتهي في أرشيف متحف العسكري بباريس بعد الإبحار في لجج المعلومات التي تقدمها خدمة Google إلى جانب ذلك يُتابع المُتلقي أجواء مصر إبانة حكم الفرنسيين وما شهدته أرض الفراعنة على مستوى البنية الفوقية لكن ماتعمتدُ عليه الرواية لشد وحداتها هو وقوع الإمبراطور نابليون في غرام (زينب) ذات ستة عشر عاماً من جانب وعلاقة الأخيرة ب(ألتون جرمان) الرسام الذي أبي أن يجندَ ريشته في خدمة المشروع الإمبراطوري من جانب آخر ومايضفي مزيداً من التوتر الدرامي لهذه القصة ثلاثية الأطراف أنَّ (زينب) هي إبنة أحد مشايخ الأزهر غير أن موقعه الديني لا يمنعه من إرتياد ماينظمه الإمبراطور من حفلات باذخة برفقة إبنته إلى أن تندمج زينبُ في حاشية نابليون ومن ثمُ ينتشر خبر عشق القائد الفرنسي بفتاة مصرية ويُفهم من سياق مايتوارد من المعلومات في الرواية أن إندفاع نابليون في حبه لهذه الفتاة ماهو إلا رد فعل لخيانة عيشقته جوزفين مع رجل يدعي باوبليت وهذا ما يذكرك بقصة خيانة أخري وردت في مطلع الرواية.
صيغ متنوعة
يُشار إلى أنَّ الصيغ السردية لتحبيك مواد المسرودة جاءت متنوعة بين السرد الموضوعي والذاتي كما وظفت الكاتبة خبرته في مجال الفن التشكيلي لصك عبارات مشحونة بإيحاءات بصرية لاسيما في الشق الذي تستعرضُ فيه ياسمين موضوعة لوحات (ألتون جرمان) التي ترصد معيش المواطن المصري وسلوكياته الحياتية،والكسبة بائع العرقسوس والسقا.يدفع الرسام ثمن منهجه المتبع في أعماله الفنية وعدم إنصياعه لنزوات نابليون فيأمرُ الأخير بإقصاء لوحاته من موسوعة وصف (مصر). مايلفت الإنتباه في هذا السياف إنَّ لوحة (زينب) تنزعُ دور البطولة وتُمَثلُ نواةً في بناء الرواية مثلما تجد الحالة ذاتها في رواية (السنة المفقودة) لبيدرو ميرال و(عيناها) لبزورك علوي و(شفيرة دافينشي) لدان براون.ومايزيدُ من أهمية هذا العمل الفني هو لحظة إكتشافها مُتزامنةً مع ما ساد عقب ثورة 25/يناير في مصر من القلق والتوتر وضبابية الرؤية وهذا الموقف لايختلف عما كانت تعيشه مصر في ظل دولة المماليك ومن ثم في عهد نابليون.
عبقرية مغمورة
يستشفُ المتلقي وجود رؤية غربية مختلفة لما سُجل في المدونات الإستشراقية في فهم تاريخ الشرق إذ كانت الصورة المنطبعة على العقلية الغربية لهذه المنطقة الجغرافية هي ما نهلها الغربُ من حكايات ألف ليلة وليلة ،وقصائد المجون فبالتالي غزت صورة شهوانية مُنمطة مخيلة الغربيين الأمر الذي يبدو بالوضوح في اللوحات التي رسمت نساء الشرق وجلسات الإمتاع والمؤانسة،لكن (ألتون جرمان) بخلاف لم ينجرف وراء الإتجاه الحسي مثل ديلاكروا ولا خلد بطولات نابليون كما فعل ذلك الرسام الشهير (كارفايلي) و(دومنيك فيفانت دينون) إنما فضل سرد وجه آخر من الحدث فبدلاً من الإهتمام بإنتصارات فرنسا كان يستلهم إرادة المصريين وثورتهم على المحتل في لوحاته كما صورَ معاناة الجنود بعد هزيمة الجيش الفرنسي في عكا وتعاظم حجم الضحايا بعد إستفحال وباء الطاعون ولكن ما يجسد خزين عبقرية (ألتون جرمان) هو لوحة (زينب) التي ضمنها ضفائر شعرها التي قصتها حتى لايعبث بها الإمبراطور الذي أعجب بتموج خصلاتها.أن قصة الحب بين ألتون زينب توازها قصة شريف والخبيرة في تاريخ الفن ياسمين كما أن رحلة التنقيب عن صاحب اللوحة وإكتشاف هويته تأتي بمحاذاة قرار الإثنين بتتويج علاقتهما برباط أبدي بعد إرتقاء تلك العلاقة إلى المستوى الحسي المباشر في باريس،وهذا مايفرقها مما وصل إليه كل من زينب وألتون من نهاية تراجيدية فالأولي يُقصف رأسها بعدما يتنكر لها الشيخ خليل البكري والثاني يروح ضحية لوباء الطاعون. مايجبُ الإشارة إليه أن هذه الرواية لها أبعاد نفسية وتاريخية وثقافية تُمثلها الشخصيات المتوزعة على جنباتها والأحداث والإحالات إلى شخصيات تاريخية ودينية مثل كليبر وجلال الدين الرومي هذا إضافة لما للبعد المكاني من دلالات ثرية مثل القونية بوصفها مدينة روحانية والأسكندرية وما شهدته من الإزدها الثقافي والحضاري .