في البدء كان التعليم

لم يتبق سوى أيام معدودات لرئيس مجلس الوزراء المكلف السيد عادل عبد المهدي، كي ينتهي من تقديم أسماء الشخصيات التي اختارها كوزراء للحكومة العراقية المقبلة، وبغض النظر عن طبيعة وإمكانات وميول أعضاء كابينته الحكومية (مستقلين كانوا أم حزبيين) فإن جديتها على تحويل وعودها في انتشال البلد مما انحدر اليه من فشل وفساد وإخفاقات في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية، سنكتشفه في الموقف من الوزارة أو الحقل الأشد تأثيرا في تقرير مصائر المجتمعات والدول الحديثة، أي (التعليم بكل مستوياته). هذا الحقل الذي تضعضع بشكل لا مثيل له في العقود الاخيرة، وتحول من ورش لتصنيع وتأهيل الملاكات المتخصصة والكفوءة لشتى ميادين الحياة، الى حطام من الأبنية وطابور من الموظفين الحكوميين والمناهج وسكراب العقائد، التي تمد هزائمنا المتتالية بالمزيد من الفاشلين والفاسدين والعاجزين عن مواجهة ما يعيشه وطنهم ومجتمعهم من تحديات ومخاطر ومحن. في هذا الحقل لا غير سنعرف مدى جدية الحكومة المقبلة، وواقعية أولوياتها واهتماماتها، وكل من اشتغل حقا في السياسة بمعناها غير المشوه (خدمة الشأن العام) يعرف مثل هذه الحقائق جيداً. جميع التجارب الناجحة التي عرفتها الأمم والدول في التاريخ الحديث، مرت عبر بوابة التحولات الجذرية في هذا الحقل، حيث الاستثمار الذي لا يعرف الخسارة (اقتصاد المعرفة) والرهان على الإنسان وقدراته اللانهائية في الخلق والإنتاج والابتكار.
المتابع الحصيف للشأن العراقي قبل “التغيير” وبعده يعرف جيداً حجم الحطام المادي والقيمي، الذي خلفته تلك المحطات المريرة من تاريخنا الحديث، لا سيما ما يتعلق منه بالرأسمال الأثمن (الإنسان) خراب سيكون كفيل بإعاقة أية محاولة للنهوض والإصلاح والتغيير، خراب تمدد لجميع تفصيلات الحياة في هذا الوطن المنكوب، ولن تجدي في مواجهته كل العطابات وسياسات الترقيع المتبعة من قبل الطبقة السياسية الحالية. وهذا ما ستحصده غالبا الكابينة الجديدة في بقية الحقائب الوزارية، رغم أنف النوايا الطيبة للبعض من المرشحين لها، فالنجاح في تحويل البرامج والمشاريع الى واقع يتطلب ما هو أكثر من النوايا والمشيئة الفردية، ومناخات الوزارات والإدارات الحكومية (العسكرية منها والمدنية) تعج بكل ماهو متنافر وما يطرح من شعارات وخطابات للإصلاح والتغيير. لا علاج لكل هذا الحطام والخراب إلا من خلال بوابة التعليم، عبر سياسات إنقاذ وطني للأجيال المقبلة، الكفيلة وحدها بتغيير مجرى الأحداث لما فيه صالح وطنها حاضرا ومستقبلاً. أجيال متخففة من هذيانات وهلوسات الأجيال الحالية المثقلة بكل ماهو مغاير لهموم وتحديات عصرها الواقعية، وهذا ما لا تطيقه حيتان وقوارض المشهد الراهن. لذا فإن الصراع في المرحلة المقبلة سيدخل أطواراً جديدة، بين هذه التطلعات المشروعة، وهرولات الكتل المتنفذة خلف سراب “الرسائل الخالدة” وهذا ما سيتوضح جلياً في الموقف من ملف (التعليم بجميع مستوياته) أي ما يعرف حالياً بوزارتي (التربية والتعليم والتعليم العالي). في هذا الحقل الحيوي ستتعرى كل الادعاءات والمزاودات الخاوية، وسنقف جميعا على حقيقة توجهاتنا وإمكاناتنا الفعلية في الالتحاق بركب الأمم التي أكرمتها الأقدار بإعادة اكتشاف كنوزها العقلية والوجدانية. عبر التعليم وحده يمكن رفد القطاعات الاخرى اقتصادية منها واجتماعية وسياسية وعلمية وقيمية بما تحتاجه للنهوض والازدهار أو التشرذم والانحطاط …!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة