فجاة شهدت العاصمة بغداد انطلاق حملة لغلق ما اطلق عليه بـ (المقرات الوهمية). باكورة تلك الصولة الامنية استهدفت مقر لواء ابو الفضل العباس وقائده الشيخ أوس الخفاجي، والذي اعتقلته القوة المهاجمة ونقلته الى مكان مجهول (عرف لاحقاً انها تابعة لامن الحشد الشعبي)، ولم يمر وقت طويل على تلك الحملة حتى جاءتنا الاخبار بغلق عدد آخر من تلك المكاتب والمقرات المتهمة بانتحالها لاسم الحشد الشعبي. البيانات التي صدرت والتصريحات الصحفية حول ذلك الامر، غالبيتها تتسم بقلة الاهتمام بذكاء وعقل المتلقي والمتابع لمجريات ما يحدث على الساحة العراقية منذ “التغيير” وحتى هذه اللحظة. بالتاكيد لسنا هنا بصدد الدفاع عن مثل هذا الانتشار الكارثي لظاهرة المكاتب والمقرات والثكنات وترسانات السلاح بشتى اشكاله واحجامه وسط العاصمة بغداد وباقي المدن العراقية، فموقفنا ثابت وراسخ بالضد من كل أشكال عسكرة المجتمع والدولة، وهذا ما تطرقنا اليه مراراً وتكراراً.
لا يخفى على المتابع الحصيف لمثل هذه الملفات الشائكة، فان موضوع “المقرات الوهمية” يحمل بين طياته الكثير من المعاني والشحنات، لذلك سنكتفي في مقالنا هذا بالتركيز على موقف من يفترض بامتلاكه ورعايته المطلقة لمثل هذه الملفات أي القضاء العراقي، والذي اعادت له الأقدار العابرة للمحيطات سلطته المطلقة والمستقلة عن تأثير ومشيئة باقي السلطات بعد استلاب طويل. لقد كنا وما زلنا نترقب وننتظر من هذه المؤسسة (القضاء) وبما تمتلكه من خبرات وصلاحيات، بلعب دور ريادي لانتشال مشحوفنا المشترك مما يحيط به من تحديات ومخاطر، وان يسترد زمام المبادرة بوصفه القوة التي يلوذ بها العراقيين عند مفترق الطرق، لا أن يبقى متأخرا عما يحصل من تطورات واحداث، كما جرى في موضوع اغلاق (المقرات الوهمية) عندما “وجه مجلس القضاء الاعلى يوم الاثنين المصادف 11/2/2019 باغلاق جميع المقرات الوهمية غير المرتبطة بمؤسسات الدولة العراقية” أي بعد انطلاق الحملة في السابع من الشهر الجاري، ومثل هذا المنحى السلحفاتي يلحق الضرر بسمعة ومكانة مؤسسة ننتظر منها ونترقبها بأمل، كي تتصدى هي لا غيرها لمثل هذه الملفات، لا أن تصل متأخرة لتغطية مثل هذه الاجراءات والقرارات التي نضجت في أماكن اخرى بعيدة عن كواليس القضاء ومحاكمه، وهذا ما اشار اليه البيان الصادر عن الحشد “هذا الاجراء جاء بعد اجتماع لأمن الحشد مع بلدية الكرادة والقوات الامنية من أجل غلق مقرات تدعي انتماءها للحشد الشعبي”.
نعلم جيداً ان تحقق مثل هذه التطلعات المشروعة والمنسجمة وماتضمنه دستور العراق الاتحادي الديمقراطي (اعادة هيبة القضاء)، ليس بالامر اليسير؛ لكنها مسؤولية من تنطع لشغل مثل هذه المواقع الحاسمة في رسم مصير ووجود هذه التجربة الديمقراطية الفتية، والتي هي اليوم بأمس الحاجة الى قضاء قوي ومستقل يذود عنها بكل ما لديه من فقه قانوني ومدونات اممية وحضارية، بوجه طبقة سياسية اهدرت واستنزفت أجمل وأفضل ما لدى العراقيين من ملاكات ومواهب وثروات وامكانات وفرص للعيش كباقي الامم والدول التي أكرمتها الأقدار بنعمة الامن والحريات والسلام الاهلي، بعيداً عما ابتلينا به من وباء العسكرة واستنساخ القادسيات وشيطنة الآخر المختلف. أمامنا الكثير من الجبهات والملفات (منها المقرات الوهمية والسلاح المنفلت و..) التي تنتظر حكم القضاء وكلمته، قبل كل شيء وبما ينسجم ودستور العراق الجديد..
جمال جصاني
عندما يصل القضاء متأخراً..!
التعليقات مغلقة