مثلث الشر

لا شيء يسحق كرامة الانسان وتطلعاته المشروعة وآدميته، كما الجهل والاكاذيب والخوف. أركان مثلث الشر هذه هي من تقف خلف هذا المسلسل الطويل من دوائر الموت والعتمة والركود المحيطة بنا من كل الجهات. كلما تطلعت شعوب هذه المضارب المنكوبة للنهوض واسترداد شيئاً مما وعدتهم السماء به “كرمنا بني آدم” وجدت نفسها بمواجهة القوات الضاربة لاركان هذا المثلث المشؤوم. وعند التمعن جيدا بهذه الاركان الثلاث نجدها تستدعي بعضها البعض الآخر، فلا سطوة ولا هيمنة للخوف من دون الجهل والاكاذيب، ولا ديمومة لهما لولا الذعر والرعب الذي يستوطن عقول وارواح هذه القطاعات الواسعة من الضحايا وحطام البشر. على صخرة هذا المثلث المشؤوم تحطمت وما زالت تتلاشى الغالبية الساحقة من محاولات النهوض والتحرر من أسر العبودية والذل والاستبداد.
وتجربتنا الحالية وبعد اكثر من خمسة عشر عاماً مما يفترض انها تحولات صوب الديمقراطية والمزيد من الحقوق والحريات؛ نجد أنفسنا ومن شتى الرطانات والهلوسات والازياء نجترح برفقة الواجهات الجديدة لذلك المثلث أشواطاً اضافية من الهزائم والمخازي على شتى الاصعدة الفردية والجمعية، وهذا ما لا تختلف عليه التقارير المحلية والدولية المعنية برصد حال واحوال المجتمعات والبلدان المنكوبة بالاوبئة القيمية.
لقد هبطت الصناديق والعبوات البنفسجية وملحقاتهما من المانشيتات والخطابات والديباجات على مضاربنا “الآمنة والمطمئنة”، وقطاعات واسعة تغط في طور “لا حول ولا قوة” وغير القليل منها صار أشبه بالزومبيات (جثث متحركة ومنومة وغالباً ما تطلق على الكائنات المجردة من الوعي) لذلك أطلقت على هذه المحطة من تاريخنا الحديث في كتاباتي بـ (حقبة الفتح الديمقراطي المبين) أي مفارقة أو فضيحة اجتماع ذلك الارث العريق من الغزوات و فتوحات الامم والبلدان و آخر تقنية حضارية ابدعتها تجارب البشر من اجل الحرية والكرامة والحقوق وفك الاشتباكات بين عيال الله؛ أي النظام الديمقراطي ووسيلته الابرز (الصناديق).
مر وقت طويل على زوال أبشع نظام توليتاري عرفه تاريخ المنطقة الحديث، وسنحت الفرصة للعديد من وسائل حرية التعبير بالوجود والتكاثر وبشتى الاشكال الورقية والالكترونية والسمعبصرية (فضائيات واذاعات ومطبوعات ومواقع وجيوش الكترونية…) اما عدد “الاحزاب” وما يطلق عليه بمنظمات المجتمع المدني والنقابات والجمعيات؛ فقد فاقت بصخبها وسكرابها وضجيجها وعددها، ما تمتلكه أكبر شعوب الارض سكاناً (الهندي والصيني) وغير ذلك الكثير، لكن منسوب (الاكاذيب والجهل والخوف) لم يتقلص وحسب بل ولج الى مساحات وأشكال اخرى.
عندما نتفحص قليلا بعلل هذه القسمة العاثرة، نجدها متجذرة عميقاً في بنية جميع هذه القوى والكتل المتنفذة في المشهد الراهن. فهي بشكل عام لا تسمح لمن تسول له نفسه “الامارة بالفضول المعرفي والنقدي” بالتقرب من كثبان الأضابير الهائلة من الاكاذيب والأضاليل التي نجترها من المهد الى اللحد. وهم جميعاً يتدافعون للاستثمار في حقول الخوف وارهاب الآخر المختلف، ليكونوا في نهاية المطاف مطمئنين لما يحيط بهم من اتباع وحبربش وقبائل المعطوب والمذعور. لذلك نجدهم دائماً في حالة ترقب واستنفار دائم، للتصدي لأبسط المحاولات التي تستهدف تقليص حجم هذه البرك القيمية الآسنة (الاكاذيب والجهل والخوف) وتحت ذرائع أكل الدهر عليها وشرب. ومن سوء حظنا جميعاً ان الضد النوعي لهذا المثلث المشؤوم أي (الصدق والمعرفة والشجاعة) وما يتجحفل معها من ملاكات وزعامات ومشاريع وطنية وحضارية لا أثر له بعد..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة