جمال جصاني
لم يكن أمر تسلل احد النكرات الى موقع حاكم بغداد (محمد الزبيدي) بعد اسابيع من زوال النظام المباد، وعقده لاجتماعات حضرها جمهور غفير من ضباط الجيش السابق وعدد من المنتسبين لنادي “النخبة” من شتى الاختصاصات؛ محض صدفة. وبالرغم من اعتقال ذلك “الزعيم” العابر والطارئ من قبل القوات الاميركية بعد وقت قصير من تنصيب نفسه حاكما للعاصمة بغداد ومن ثم اختفاءه لاحقاً، الا ان ذلك كان مؤشرا واضحاً على ملامح وهوية مرحلة لا مشاريع ولا بدائل وطنية ولا زعامات رصينة لها… مر وقت غير قليل على لحظة تبخر كل ما له صلة ببعبع “جمهورية الخوف” الا ان نتائج ما بعد ذلك كانت محبطة وكارثية بكل المقاييس. اكثر من سبعة عشر عاماً شهدت استفتاء على دستور جديد للبلاد واجراء اربعة دورات انتخابية وتشكيل العديد من الحكومات المؤقتة والدائمة، حيث كان تحت تصرف العديد منها موازنات خيالية لم تعرف من قبل، رافق كل ذلك انفتاح اقليمي ودولي بعد حصار مرير وطويل، وغير ذلك من المناخات والشروط المساعدة للعراقيين كي يقدموا افضل ما لديهم من مواهب وقدرات وتطلعات؛ الا ان المعطيات كانت على غير ذلك تماماً.
اليوم والعالم كله يواجه عواقب جائحة كورونا الممتدة لكل تفاصيل حياة البشر (افرادا وجماعات) يجد العراقيون انفسهم امام بؤس وضحالة امكاناتهم الفعلية وسط مناخات من التشرذم والغيبوبة والضياع تزداد قسوة وضراوة بهمة وسائل اعلام ومنابر ومصادر تمويل ومناهج تعليمية ومنظومة سرديات وقيم تدفع الى المزيد من التشرذم والتيه والهوان، ومن دون ادنى شعور من حس او عقل أو ضمير. واستمرارا لمنهج التخاذل والحذلقة والتواطؤ الذي ادمنت عليه “النخب” المعطوبة والمذعورة؛ سارعوا لفبركة نوع من القدرات الاسطورية لـ “شارع” تعرض لابشع انواع المسخ والتجهيل والاغتراب عما يحصل حوله، بعد مشوار طويل من الدقلات والخيانات المخزية للانتلجينسيا. من يجد في نفسه القدرة على اتخاذ مواقف مستقلة عن الفزعات القطيعية التي تهيمن عادة على مثل هذه المراحل الملتبسة في حياة المجتمعات، سيدرك مغزى مثل هذه الاوهام المميتة التي تسطرها هذه “النخب” وعلل هذا التبجيل الذي تسقطه على “شارع” فاقد لابسط مقومات النهوض والتصدي لمخاطر وتحديات هي الاخطر في تاريخنا الحديث.
نعم، من الناحية الشكلية رحل نظام العصابات الذي فتك باجمل وأفضل ما هدهده العراقيون من مشاريع وآمال، بعد أن أثقل ما تبقى من حطام المجتمع والدولة بفواتير مادية وقيمية ستتحمل وزرها اجيال متعاقبة من العراقيين، لكن من الناحية العملية فان شبح تلك الحقبة وظلالها القاسية وفلولها وواجهاتها المستجدة ما زالت موجودة وفاعلة ببركة الجماعات والمخلوقات المسكونة بعشق “الرسائل الخالدة” والتي وجدت فيما يمتلكه حطام اسلافهم من خبرات في ذلك المجال، معينا لها في انجاز ما تلقفوه من “امانة تاريخية”. مثل هذه الحقائق المؤلمة يمكن مشاهدتها بوضوح فيما نتج عن فزعات “اجتثاث البعث” وكرنفالات المصالحة الوطنية والعشائرية، والتي انتجت ما يمكن ان نطلق عليه بـ “انجلاب البعث” بعد أن تأكد “الرفاق” مما يمتلكونه من معطيات عن الخلطة التي تلقفت مقاليد امور ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية. واختصارا للوقت والجهد ادعوكم للالتفات قليلاً الى المصادر التي تزود قبائل وطوائف وملل هذا الوطن المنكوب، بـ “المعلومات” والاولويات والاهتمامات والهوسات، ونوع المخلوقات والقوى والتمويل الذي يقف خلفها، لتتبينوا قليلاً حقيقة موقعكم ومكانكم من الاعراب..!