العقلانية وعربة الديمقراطية

لقد احتاجت الديمقراطية كمفهوم وتجارب على الأرض الى وقت طويل كي تصل الى ما هي عليه اليوم، بوصفها أفضل النظم المجربة لفك الاشتباكات بين البشر. وهي منذ باكورة خطواتها زمن الإغريق قد اقترنت بالعقلانية وظهور المدن وما رافق ذلك من قفزات فكرية وفلسفية مع أعمدة النشاط العقلي في ذلك العصر (سقراط وافلاطون وأرسطو) وبقية القافلة المتوهجة من الفلاسفة والمفكرين. بذرة العقلانية تلك وجدت في بغداد وبقية المدن التي أكرمت العقل ملاذا مناسباً لها زمن المعتزلة والمأمون ودار الحكمة، ثم ما لبثت أن انتقلت الى الغرب بعد الهزيمة التي لحقت بمعسكر العقلانية وآخر رموزها المتمثل بابن رشد والذي تحولت كتاباته وأفكاره الى معبر، للأوربيين لكنوز وإرث العقلانية، حيث نتج عن ذلك ما تعرفنا عليه من نهضة علمية وقيمية أعادت الاعتبار لما قاله أبو العلاء المعري (لا إمام سوى العقل). بعد ان بسطت العقلانية سطوتها على شتى مناحي الحياة، تقلص نفوذ القوى التقليدية وعلى رأسها الكنيسة وسلطة رجال الدين، مما أتاح للديمقراطية ومنظومتها السياسية من التحول الى واقع في تلك البلدان، حيث برهنت التجربة على ازدهار التجربة الديمقراطية يتناسب طردياً وانتشار وترسخ العقلانية وما يرافقها من قيم ومعايير وتشريعات.
من خلال ذلك يمكن التعرف على علل غرائبية المشهد الراهن في عراق ما بعد “التغيير”. عندما هبطت “الديمقراطية” وملحقاتها من صناديق وأحبار بنفسجية ومفوضية على تضاريس بلد عبثت بشعوبه وقبائله وملله أبشع أنواع السيناريوهات المعادية لكل ما له علاقة بالعقل والتطلعات المشروعة للبشر. أكثر من أربعة عشر عاماً مما يفترض كونه تجربة ديمقراطية فتية، لم ينضح عنها غير ما نشاهده من سيناريوهات وحصاد بعيد كل البعد عما يرشح عادة من مثل تلك التجارب، والسر يكمن في الهيمنة الواسعة لـ (اللا عقلانية) التي تحجب عنا إمكانية وعي ما يدور حولنا من أحداث وتحديات واقعية، وبالتالي امتلاك هرم صحيح للأولويات، يكبح الاستنزاف الهائل للقوى والفرص والإمكانات، الذي طبع بميسمه وضعنا الحالي. إن العقلانية هي شرط وجود الديمقراطية وازدهارها، ومن دون ذلك يصبح حالنا كحال من يضع العربة قبل الحصان، لنحصد مثل هذه العواقب والمصائر المريرة. مثل هذه الاصطدامات لن تتوقف حتى يحسم الصراع بين هذين القطبين؛ اللاعقلانية وما تستند إليه من إرث وتقاليد ومؤسسات نافذة، والديمقراطية وقاعدتها المحدودة حالياً، لكنها الواعدة مستقبلاً. وهذا ما يمكن التعرف عليه في سلوك الكتل المتنفذة وتوجهاتها التي تعمل جاهدة على إفراغ النظام الجديد من محتواه الديمقراطي ومدوناته المتفق عليها أممياً، ليتحول الى صيغة سياسية وقيمية كسيحة، تتفق ومقاساتها وغاياتها المتخلفة.
هذا التناقض والتنافر وبالرغم من سطوة اللاعقلانية على المفاصل الحيوية للمجتمع والدولة، لا يمكن حله بالتخلي عن الخيار الديمقراطي لصالح صيغ النظم السياسية المتناغمة وهذا الميزان المختل للمصالح والقوى، كما أن واقع حال البلد الحالي لا يسمح بتجريب المزيد من التجارب الآيديولوجية والعقائدية عليه، لذا لم يعد أمامنا غير التصدي لهذا الخلل السياسي والقيمي والمعرفي، كي نعيد الأمور الى نصابها الصحيح وبما فيه خدمة المصالح العليا لسكان هذا الوطن الذي عبثت بمصائره وتطلعاته المشروعة للحاق بركب الأمم الحرة؛ هذه الموجة من الهلوسات وفزعات الجنون الجمعي والتي تتنافر وروح أهل العراق وفطنتهم وعلاقتهم التأريخية مع العقل النقدي والفضول المعرفي..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة