كثيرا ما يتم ترديد عبارة “البعث صار من الماضي” ومن قطاعات متعددة ومختلفة احيانا في المشارب والمصالح، منهم من يروج ذلك لمقاصد غير بريئة، وآخرون يرددون ذلك بسذاجة ومن دون وعي لآثاره وعواقبه على ارض الواقع، وبين هذا وذاك هناك الكثير مما خلفته تلك الحقبة المشؤومة من حطام البشر الذي يمني النفس بشطب تلك التجربة المهينة من سيرة حياته، وكأن شيء لم يكن. لكنها جميعها لا تعدو ان تكون سوى محاولات للهروب أو التملص من استحقاقات يتوجب التعاطي معها بمسؤولية وشجاعة، كي يصبح البعث جزء من ماضي بائس ومرير عرفه تاريخ العراق الحديث. البعض ممن اتاحت له حقبة الفتح الديمقراطي المبين، الفرصة لاستعراض مواهبه الديمقراطية والثورية التي لم يعرف عنها شيئا زمن النظام المباد، نجدهم يوجهون سيلا من التهم الجاهزة لمن يشكك بقناعاتهم تلك، ويعدونهم مسكونون بـ “فوبيا البعث” وغير ذلك من الكبسولات الجاهزة. والحقيقة ان الموقف الواعي والمسؤول مما جرى لا يمكن ان يمت بصلة لمشاعر الثأر والانتقام وردود الافعال الانفعالية، بل هو شرط اساس للانتقال بالعراق الى عهد جديد آمن ومستقر.
في الاجابة على سؤال “متى يصبح البعث من الماضي؟” بمقدورنا تعقبه في كل ما يمثل الضد النوعي لما خطط له البعث وحققه ورسخه طوال ما يقارب الاربعة عقود من هيمنته المطلقة على تفاصيل شؤون الدولة والمجتمع (افرادا وجماعات) والتي احصرها شخصياً في هدف (سحق آدمية الانسان) داخل صفوف حزبه أو خارجه، وما عسر وتعقيد مهمتنا في ترحيل البعث الى الماضي، الا دليل واضح على ما حققه في استراتيجيته الممنهجة لمسخ البشر. وهنا لابد من المرور بما اقترفته الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد عراق ما بعد “التغيير” بحق هذه المهمة الوطنية والوجدانية والحضارية، رغم انف ما اوجوده من هيئات لاجتثاث البعث أو المساءلة وغير ذلك من التشريعات والمؤسسات الفاشوشية، حيث قدموا بسلوكهم وشراهتهم وضيق افقهم ومعاييرهم المعطوبة؛ خدمات مجانية لا مثيل لها لفلول البعث وواجهاته المستجدة، ولم يكن من قبيل الصدفة انهم حرصوا على بقاء رموز وعلم ونشيد النظام المباد كل هذه الاعوام مما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية.
لقد تم اهدار فرصة لا تقدر بثمن لكل بيادق تلك الحقبة المشؤومة (ضحايا وجلادين)؛ كي يستردوا آدميتهم التي سحقتها سياسات النظام المباد وانتهاكاته التي تستحي منها الضواري. فرصة كي يسترد العراقيون من شتى الرطانات والهذيانات والازياء، قدراتهم العقلانية والوجدانية وبالتالي توازنهم واستعداداتهم لمواجهة المخاطر والتحديات المصيرية التي تواجهم بعد كل هذا الخراب الذي لحق بالبشر والشجر والحجر. وانا اكتب هذا العمود اتذكر سائق التكسي الذي كشف لي (نهاية العام 2004) عن معاناته مع بقايا جهاز مخابرات النظام المباد، كونه أحد ضباط ذلك الجهاز، وتهديداتهم له بالموت ان لم يتواصل معهم، وبغض النظر عن تفاصيل ما دار بيننا من حديث، الا انني لم استغرب ما ذكره لي ذلك الضابط السابق في المخابرات، وكل من يعرف شيئا عن اساليب ووسائل ذلك (الحزب-العصابة) وما تتسم به من خسة ودونية ونذالة، يعي مثل هذه المعاناة لبيادق تلك الحقبة (ضحايا وجلادين). نعم، سيصبح البعث من الماضي عندما يدرك من كان جلادا او متواطئا او معطوباً؛ أهمية ومعنى استرداد آدميته، والتي لا تعوض بـ “ربح العالم كله”…
جمال جصاني