ما دعاني الى كتابة هذا المقال هو عبارة “بلدها عامر بالشذوذ والمخدرات..” وردت في بيان للنائبة عالية نصيف دعت فيه وزارة الخارجية لاستبدال ممثلة الامين العام للامم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت “والمجيء بشخصية حيادية وقريبة من عادات وتقاليد شعبنا..” لأنه ووفقاً لما جاء في ذلك البيان العتيد “بلاسخارت تعتمد التضليل وتغييب الحقائق في تقاريرها التي تفتقر الى المصداقية”. بيان النائبة نصيف كشكل ومضمون ومفارقات، يمكن للمتابع الحصيف لغرائبية المشهد العراقي الراهن، تلقيه بوصفه عينة انموذجية لمواهب وذهنية تعاطي قطاع واسع من الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور عراق ما بعد “التغيير”. انهم لا يرون في كل ما يزخر به وطن الحريات والتسامح والزهوروالرعاية الصحية الاولى في العالم، والدولة الأكثر سعادة وفقا لبيانات منظمة التعاون والتنمية، وثاني أكبر بلد مصدر للمنتجات الغذائية والزراعية بعد الولايات المتحدة الاميركية، ومركز المحاكم الدولية (لاهاي) ووطن شركة فيليبس ومصانع السفن الضخمة وصاحبة أكبر ميناء في اوروبا (روتردام) وغير ذلك من الزحزحات العلمية والقيمية، والتي لن نتجرأ على استحضارها في احلام يقظتنا؛ سوى “الشذوذ والمخدرات”..؟! هكذا تبدو هولندا لمن لا يكلف نفسه في تصفح شيئا عن تاريخ وارث هذا البلد العريق، في مجال التسامح الديني والثقافي والفكري. لذلك يعجزون عن فك طلاسم منظومة العدالة الجنائية التي يعتمدونها، ومنها التسامح والمرونة تجاه مسائل مثل؛ المخدرات والبغاء وحقوق المثليين وغير ذلك من “البلاوي” والتي نستعين على مواجهتها لا بالمكاشفة والعلنية والقوانين، كما هو الحال مع الامم التي وصلت لسن التكليف الحضاري، بل بالمراوغة والكتمان..!
ونحن في زمن الكورونا، لن اجافي الموضوعية والانصاف، ان صنفت مثل هذه “الحنديريات” المخصبة بثوابتنا في موروثات الشيزوفرينيا والغطرسة الفارغة في التعاطي مع الاحداث والعالم المحيط؛ بانها أشد خطرا وفتكاً من فايروس الكورونا وما يتجحفل معه من سلالات وبائية. كما ان السيدة القادمة الينا من البلد الذي استقبل سبينوزا بعد أن طاردته اوروبا بقضها وقضيضها، قد جاءت الينا وهي تحمل من ذلك الارث الحضاري والانساني الشيء الكثير. وهذا ما يمكن التعرف عليه في مضامين تقريرها الاخير والذي أثار غضب واستياء السيدة نصيف.
لقد أعدت قراءة ذلك التقرير فلم أجد فيه الا ما يثير الاحترام والاعجاب، لما ورد فيه من معطيات وحرص وعمق في سبر غور ما يتربص بنا من مخاطر وتحديات. وسأختار لكم فقرات من ذلك التقرير منها: “دعوة القادة السياسيين للارتقاء الى مستوى مسؤولياتهم” و “كسر النصاب آخر ما تحتاجه البلاد” و “ما زال البلد يدفع الى المجهول” و “التدفقات المالية غير المشروعة ودورها في تمويل الجريمة المنظمة والتطرف..” و”الايرادات الضخمة لقطاعات غير منتجة” و “انتهاكات حقوق الانسان ما زالت مستمرة” و “تقديم الجناة للقضاة، وانهاء ملف الافلات من العقاب” وضرورة الاصلاح المنهجي الشامل “وليس هناك من يفهم ذلك أكثر من النساء والرجال العراقيين، الذين ما زالت فرصهم في حياة مزدهرة ناقصة، بسبب منظومة تتجاهلهم” ثم اختتمت تقريرها بـ “القوة في الداخل هي شرط اساس للقوة في الخارج”. هذه هي اهم المحاور التي تضمنها تقرير السيدة جينين هينيس بلاسخارت وأثار حفيظة وغضب السيدة نصيف وقبل ذلك العديد من اوساط الطبقة السياسية والمنتسبين لنادي “الاحتجاجات” فتأملوا يرعاكم الله…
جمال جصاني