عماد الدين موسى
تبدو قصيدة الشاعر السوري نوري الجراح (مواليد دمشق، سنة 1956) أقربَ إلى المرثيّة الهادئة في تناولها للوجع السوري الراهن؛ قصيدةٌ شفيفةٌ ومؤلمةٌ في الآنِ معاً، بينما صورهُا الشِعريّة تتدفّق سلسةً وبمنتهى الرقة والرصانة.
في مجموعتهِ الشِّعريّة الأحدث «لا حرب في طروادة، كلمات هوميروس الأخيرة»، الصادرة عن منشورات المتوسط في ميلانو 2019، يواصل الجرّاح تدوينه «للتغريبة السوريّة»، تلك التي تعجز عن وصفها لغات العالم أجمع، حيثُ نقرأ بين ثنايا مجموعته هذه قصائد تنطلق من الهمّ الخاص والشخصيّ إلى العام والكليّ، «مُحوِّلة الواقعَ الكابوسي إلى واقعٍ آخر»؛ في «تراجيديا غنائية لا نهاية لها». يقول: «لَا حَرْبَ فِي طُرْوَادَة،/ لَا دَمَ وَلَا دُمُوعَ،/ لَا أَقْوَاسَ نَصْرٍ وَلَا أَطْوَاقَ غَارٍ فِي الرُّؤوسْ./ لَا جُرُوحَ فِي جَثَامِينِ الْرِّجَالِ،/ لَا قَتْلَى وَلَا قبور،/ لَا آسَ عَلَى الْأَسْمَاءِ، وَلَا بَاكِيَاتٍ فِي شُرُفَاتِ الْبُكَاءْ».
وجود هذا الزخم الكبير من مفردات مأساويّة وغايةً في القساوة، في مقطع شِعري قصير، كما في المقطع السابق من مثل: «حرب» و»دم» و»دموع» وجروح» و»جثامين» و»قتلى» و»قبور» وباكيات» و»البكاء» وغيرها الكثير الكثير، إن دلّت على شيء، فهي خير دليل وشاهد على أنّ المأساة فاقتْ الوصف وأنّا للغة أن تستوعبها، أو كما يشير الشاعر- في مكانٍ آخر- بأنّ «السؤال الجوهري بالنسبة إلى الشاعر في زمن المأساة هو أولاً وأخيراً: بأيّ لغة أكتب القصيدة أمام هول الجريمة؟».
رحلة الوجود والفناء
يكتب نوري الجراح أناشيد وآيات من صلب الواقع السوريّ وآلامه؛ مؤرخاً لمرحلةٍ حرجةٍ، هي رحلة الوجود والفناء على طول الخارطة في وطنٍ أصبح الموتُ عنوانه الأبرز والمانشيت العريض لكل الأخبار الواردة منه. ولعل اللافت- هنا- أنّ الشاعر الجراح يلجأ لتقنية «القناع» في إسقاطه الواقع الحالي على الحدث التاريخي، منذ العنوان الرئيس للمجموعة، مروراً إلى عناوين الأبواب ومن ثمّ القصائد، وصولاً إلى القصائد نفسها. يقول: «لَا حَرْبَ فِي طُرْوَادَة،/ لَا مَرَاكِبَ عَلَى السَّوَاحِلِ، وَلَا جُنُودَ فِي الْمَرَاكِبْ./ الْقَمَرُ يَلْهُو فِي الْحُقُولِ،/ والشَّجَرَةُ تُؤْنِسُ الْحِصَانْ./ لَا حَرْبَ/ فِي طُرْوَادَة/ الْمُنْشِدُ أَسْلَمَ قِيْثَارَتَهُ لِلرِّيْحِ،/ وَاسْتَرَدَّ أَصَابِعَهُ مِنَ الْأَوْتَارْ./ عُوْدُوا إِلَى بُيُوتِكِمْ،/ عَانِقُوا الزَّوْجَاتِ الصَّغِيْرَاتِ، وَقَبِّلُوا الْأَطْفَالَ،/ وَتَلَهُّوا بِخَمْرةِ الْعِيدْ./ لَا حَرْبَ فِي طُرْوَادَة».
تقنية التكرار في المقطع السابق، كما في قصائد أخرى عديدة للشاعر، أضفت المزيد من السلاسة والحيويّة إلى أجواء القصيدة، بالإضافة إلى تلك اللمسة الموسيقية/ الغنائيّة العذبة.
الملهاة الدمشقيّة
مجموعة «لا حرب في طروادة، كلمات هوميروس الأخيرة»، والتي جاءتْ في مئة وست وسبعين صفحة من القطع المتوسط، ضمّت أربعا وخمسين قصيدة موزعة على أحد عشر باباً،
حيثُ جاءت عناوين الأبواب متسلسلة كما يلي: (الملْهاةُ الدّمَشْقيَّة «لسان الجحيم»، سَمَكَةُ آخِيلْ «أنشوُداتْ»، كَلِمَاتُ هُومِيرُوسْ الْأَخيرَةْ، الطَّالِعُ بِالْعَجَلَةِ وَمَعَهُ الْإكْلِيلْ، الْقِيثَارَةُ والرِّيحْ، كِتَابُ آيَة، هَوَاءُ تِيْنُوسْ «أَرْبَعُ حِكَايَاتٍ لِلْمُرَاهِقِينْ»، طَيَرَانٌ فِي بُورْتُوبِيلْلُو، آلَامُ نَرْسِيسْ، يَأْسُ أُوْدِيسْيُوسْ، ما بَعْدَ القَصِيدَةِ).
جديرٌ بالذكر أنّ الشاعر نوري الجرّاح من مواليد دمشق 1956، يقيم في لندن منذ 1986. صدرت مجموعاته الشعرية بدءا من 1982، وهي: (الصبي، مجاراة الصوت، كأس سوداء، القصيدة والقصيدة في المرآة، طفولة موت، صعود إبريل، حدائق هاملت، طريق دمشق، الحديقة الفارسية، يوم قابيل، يأس نوح، مرثيات أربع، قارب إلى لِسبوس، ونهر على صليب)؛ عدا عن أعماله الشعريّة والتي صدرت في مجلدين في بيروت 2008، بالإضافة إلى مختارات من شعره صدرت في كل من بيروت والقاهرة والجزائر.