هروبنا

الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967

تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.

الحلقة 9

جاسم المطير

كان نصيف الحجاج يميل دائما إلى آراء مظفر ومعطياته في الحديث أيضا . ورغم أن حافظ رسن كان طيب القلب وجديرا بالأعمال الحزبية الشاقة إلا انه يندفع نحو فرض رأيه ، في كثير من الأحيان ، بمزاج خاص غافلا وجود الآخرين . يريد لرأيه أن يكون متسيدا دائما ، ومواقفه لا تخلو ، أحيانا ، من الاستبداد والتعصبية . هذه الصفة اعرفها عنده قبل عشرة أعوام أيضا . ولم يتخلص منها حتى الآن . لذلك حاول إقناعي أكثر من مرة ، يوم أمس والذي قبله ، بشيء من مخبآت صدره طالبا مني تأييده في العمل من ” المطبخ ” وليس من ” الصيدلية ” خاصة وانه كان يفكر ، كما أخبرني صراحة ، بإخفاء الحفر في النفق عن حسين سلطان الذي كان يسكن بقاووش مجاور للصيدلية . لهذا فهو يفضل أن يكون ” الحفر ” بعيداً عن أنظاره .
كنت اعرف بعض محيط ” المطبخ ” وقد اكتشفتُ سلبيات جغرافيته بعد أن زرته بالمصادفة عدة مرات ، لكنني لم ادخل إلى ” الصيدلية ” قبل ذلك ولا حتى قبل الهرب . المرة الوحيدة التي دخلت فيها إلى الصيدلية هي ساعة الهرب فقط . وكانت آراء وكلمات مظفر عن أهمية موقع الصيدلية توحي لي بالثقة وكنت على ضوء ذلك أجدد باستمرار هذا التحديد وهذا التصميم لكي اخترق إصرار عقل حافظ رسن لتعديل قناعاته حول ” الصيدلية ” كبؤرة للانطلاق في الحفر والهرب مع ضرورة وضع أفكار لخطط تستهدف تأمين حاجات تضليل الحفر في هذا الموقع عن أعين الآخرين . وقد نجحت فعلا في محو كل تفكير بعد اليوم حول فكرة نفق ” المطبخ ” المترسخة لدى حافظ رسن ، وتحويلها إلى الصيدلية فصار بذلك مندمجا معنا بمهمة واحدة ، وبصفاء سريرة ليس فيها شائبة ، وباندفاع لا يتوقف ، من اجل أن يكون الفريق موحدا وفعالا . وقد أزيلت جميع العوائق أمام بدء العمل .
في اليوم التالي انشغلنا ، في كل لقاء ثنائي ، بالبحث عن الإجابة على الأسئلة التالية :
ما الذي نحتاجه الآن لتفجير طاقة العمل ..؟
ما هي خطة العمل ..؟
كيف نحقق السرعة بالعمل ..؟
كيف ندرس احتمالات النجاح والفشل ..؟
كيف نختار المنفذين وكيف نحافظ على سرية دخولهم وخروجهم كل يوم إلى ” الصيدلية ” من دون إثارة استغراب أحد من السجناء ..؟
كيف نحافظ على سر العمل وأسرار العاملين ..؟
أول مهمة واجهتنا هي اختيار الفريق التنفيذي الذي سيكون هو بطل حفر النفق . . كيف يمكن اختيار الفريق الذي يملك تصورا كاملا لمجرى الحفر وحاجاته ومصاعبه وآفاقه كلها ، وإخضاع العمل كله إلى عقل نير وتكنيك فعال .كانت هناك أفكار واتجاهات متداخلة ومتفاعلة وأحيانا مختلفة . وكان لا بد في عملية اختيار الفريق من خلال الفصل بين جميع وجهات النظر المتعارضة لأغراض أن يكون الاختيار دقيقا . وقد وجدنا ( نصيف الحجاج وأنا ) من خلال تبادل الآراء بيننا أن بإمكان مظفر النواب وحافظ رسن التحكم بهذه المهمة وبسيرها ومضامينها وأشخاصها ، من ثم أخذ موافقة نصيف الحجاج عليها باعتباره المسئول الفعلي للمنظمة الحزبية داخل السجن وهو كما معروف عنه أنه شيوعي شفاف يستحسن الوصول بمرونة ، دائما ، إلى قرار معين من خلال الحوار .
كنت أتناول وجبة الفطور معه . المائدة كانت تضم في ” السفرة ” الصغيرة التي أمامنا ، كبابا مقليا ( عروك َ) وطماطة وخيار وجبن ومربى وخبزا بائتا وشايا مخدرا على هيتر كهربائي صغير وقال لي إثناء تناول الطعام و بتأكيد جازم :
ــ أنا أثق بمظفر النواب و أثق بسلامة قراراته .
في ضوء هذه الثقة كان نصيف الحجاج قد منح لمظفر النواب تفويضا مطلقا على اختيار من يشاء من الرفاق المنفذين وعلى الحد من الاندفاعات المحتملة لدى حافظ رسن . ومظفر النواب قادر ، حتما ، بمزاياه المتعددة العذبة ، على بناء علاقاته الفعلية مع الجميع لتحقيق النجاح .
بالفعل فقد تبينت قدرتهما ( مظفر النواب وحافظ رسن ) الفائقة على ضوء المعلومات التي يملكانها عن غالبية السجناء الشيوعيين ، داخل السجن القديم والجديد ، فاختارا نماذج من الشيوعيين قادرين على التحكم في الحفر وعلى مساراته ، بعد أن تم وضع حدود جغرافيا النفق من ” داخل الصيدلية ” إلى ” داخل الكراج ” المجاور وفق تكنيك يدرس ويوضع لعملية الحفر .
كان لا بد من اختيار العاملين بالنفق ممن تتوفر عندهم الصفات التالية :
1 – قوة جسدية لا تتعب من العمل الذي قد يستغرق الليل كله .
2 – نموذج أصيل في المبادرة إذا ما واجهتهم أية صعوبات أو عراقيل داخل النفق أو أثناء الحفر .
3 – قدرتهم على تقدير عامل الزمن لغرض التحكم فيه وتحقيق السرعة في الانجاز .
4 – الالتزام التام بسرية العمل
5 – القبول بحالة الحصار التي قد تفرض على علاقاتهم مع السجناء الآخرين ضمانا لسرية العمل والاستمرار اليومي فيه .
6 – ولا شك أن الصفة الأولى المتوفرة بكل واحد من المنفذين هي الشجاعة والإقدام بأقصى مستوياتهما .
لقد كانت اختيارات مظفر النواب وحافظ رسن ، لحسن الحظ ، ناجحة ومتلائمة تماما مع الصفات المحددة المذكورة استنادا إلى الانجازات الحية التي حققوها منذ أول يوم العمل وحتى ساعة الهرب . كان المنفذون الذين أبلغوا ، كلا على حدة ، في أقصى السرور ، وحسين ياسين وعقيل حبش رددا نفس أغنية عبد الحليم حافظ التي كانت تذاع مرات عديدة في تلك الأيام بإذاعتي القاهرة وصوت العرب : دقت ساعة العمل الثوري .
كانت الكوكبة التي تم اختيارها تتكون من مجموعة ، أربعة سجناء ، كانوا يملكون هوية ذاتية من نوع الجهادية العالية والتضحية والقدرة على تحشيد وتنظيم العمل اليومي المشترك بتراكم كمي متواصل لانجاز مهمة حفر النفق بأسرع ما يمكن وبتجاوز أي عائق يمكن أن يظهر أثناء العمل ، خاصة في ظروف كانت فيها معنويات جميع السجناء السياسيين في سجن الحلة عالية إلى حد كبير ومركزة على قرب مجيء الحرية إليهم .
هكذا تم اختيار السجناء التالية أسماءهم :
1 – الملازم فاضل عباس المفصول من وحدته بالجيش بسبب انتمائه للحزب الشيوعي ، والمحكوم عليه بالسجن لمدة 17 سنة ، وهو من النخبة العسكرية المثقفة . كان يتميز بالذكاء الحاد وبالقدرة على اختراق الصعوبات .
2- عقيل حبش الجنابي من الناصرية . عامل شيوعي يملك مجموعة من المهن والحرف والأعمال اليدوية ، وكان قادرا على التحرك المثابر مما يوفر لهذا الفريق قدرات عملية مناسبة لعملية الحفر وكان محكوما بالسجن لمدة 10 سنوات .
3 – حسين ياسين كادر شيوعي من أهالي الناصرية محكوم بالسجن لمدة 3 سنوات وهو من الكوادر النشيطة المتحمسة إلى اللحاق بركب التنظيمات الشيوعية وكنت اعرفه معرفة جيدة واعرف سفر حياته الحزبية في مدينة الناصرية .
4 – كمال كمالة ملكي ، وهو كردي قوي البنية ونشيط في الحركة والعمل وكان محكوما عليه لمدة 10 سنوات .
هذا هو الفريق الذي تم اختياره لتنفيذ خطة العمل وحفر النفق غير أننا فوجئنا بوقوع حافظ رسن بمطب أمام حسين سلطان الذي تم الاتفاق على عدم أخباره لا بتوقيت خطة حفر النفق ولا بذكر أسماء اللجنة خشية أن يزداد حسين سلطان حماسا بالدعوة إلى ” التريث ” رغم أن الاتفاق كان قد تم معه على ” قرار ” الحفر وعلى ” تأخير ” التنفيذ إلى حين ورود قرار اللجنة المركزية . هذا المطب ، كما اخبرني به حافظ رسن في مساء اليوم نفسه ، جعل حسين سلطان يقترح بضم احد السجناء المقربين منه إلى لجنة الحفر والتنفيذ . اسم السجين ( جدو ) وهو اسم اشتهر به داخل السجن فلم يكن أمامنا غير القبول بالاقتراح وضم ( جدو ) إلى اللجنة ضمانا لتجنب الخلاف في هذه المرحلة على أن نعالج الموضوع مستقبلا بطريقة شفافة لا تثير قلقا عند حسين سلطان ولا تثير الانتباه إلى المواقف المعدة لظروف احتياطية قد تنشا إذا ما وقف حسين سلطان ذات يوم رافضا التنفيذ وطالبا التريث ، وهو الموقف الذي لا يريد التنازل عنه .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة