البعد الإيديولوجي في تشكل النقد الثقافي العربي

القسم الثاني

د. سامر فاضل الأسدي
ثالثا: مهمّة الناقد الإيديولوجي لا تنحصر بحدود النص، بل النفاذ إلى بنيته التحتية، وتعرية ما يخترق نسيجه من صراعات في مظاهرها الاجتماعية والنفسية المتولدة في الواقع من الظروف والأوضاع الموضوعية الحافّة بحياة الأفراد والجماعات، وبهذا المعنى يقوم الأديب بصياغة نوعية لقوانين حركة المجتمع وصراعه. وبرصده لهذه القوانين المتحكمة بالصراعات الاجتماعية ونفاذه إلى ذهنية المجتمع، يسهم في الكشف عن القوة الفاعلة والمؤثرة في سيرورة التحولات الحادثة في المضمون المعبّر عن المجتمع(1). وعلى هذا الأساس تعصّب نقّاد هذا الاتجاه للمضمون الاجتماعي بوصفه معياراً أساسياً يفسّر العمل الأدبي ويقيّمه، ولعل ذلك يعود إلى المرجعية الماركسية، التي تتّجه بطبيعتها «إلى ما هو خارج العمل الأدبي، إلى التركيب الاقتصادي للمجتمع، ولا شكّ في أن هذا الحكم القائم على الشرح الميكانيكي للعمل الأدبي هو الذي أثبت عقم المنهج الماركسي في مواجهته للأعمال الأدبية»(2). ونتيجة لذلك أصبح تقييم العمل الأدبي خاضعاً للشرح الميكانيكي الجاهز، وليس بياناً لخصوصية وسمة إبداعية.
رابعاً: يشدد النقد الإيديولوجي على أهمية التشكيل الفني وصياغة المادة، ولذلك لا يعد الشكل مجرد هيكل خارجي يوظّف لخدمة الموضوع، وعلى هذا لا يكون العنصر الجمالي موسوماً بالمثالية والإطلاق، وإنما هو ينظم العناصر المادية وينسّقها، بحيث يخدم الهدف، وبدونه لا يمكن للشيء أن يحقق وظيفته المنشودة. وبهذا تكون الصورة ذات أثر بالغ في تأدية المضمون للإيديولوجيا المتوخاة، فالقيمة المضافة تنبع من التشكيل النوعي الخاص لعناصر الموضوع، بما يعطيها مضموناً معيناً(3).
وقد اشتغل على هذا النقد نقاد منهم لويس عوض ومحمد النويهي وحسين مروة وغالي شكري(4)، وغلب على أكثرهم الانتصار للمضمون على حساب الشكل، والمنفعة على حساب الجمال، والالتزام على حساب الحرية. وعلى الرغم من أن النقد الإيديولوجي أصبح اتجاهاً نقدياً مستقلاً، محققاً رؤى نقدية خاصة به، فإنهم لم يخرجوا عن طروحات النقد الانعكاسي؛ وذلك لأنهم انطلقوا من زوايا نظر إيديولوجية تخالف طبيعة النص الأدبي، إذ اتّخذ النقد الإيديولوجي من الأدب وسيلة لخدمة المجتمع. ومقياس جودة كل نص أدبي هو مقدار المنفعة لعامة الشعب، وبذلك تحوّل النص إلى مجرّد تابع يخدم نشاطات الناس عامة، مما أدّى إلى حصر وظيفته بها، وقراءة الناقد الإيديولوجي لا تعدو أن تكون في ضمن مقولة(الالتزام) بتلك النشاطات، مما تولدت قراءات أحادية النتائج للنصوص جميعها التي قرأها أصحاب هذا الاتجاه.
التفاعل: الإيديولوجيا عنصراً تفاعلياً في الخطاب الثقافي العربي: إن دراسة البُعد الإيديولوجي في الدرس الثقافي العربي تمكننا من رصد أهم تحولات النص من أدبيته إلى شموليته الثقافية، وبذلك نستطيع الكشف عن قيم النص الثقافية والجمالية على حدٍّ سواء، فالإيديولوجيا تفسّر لنا المرجعيات الثقافية، والكيفية التي خلق فيها النص، وعلى الناقد أن يعتمد قراءة من نوع خاص(قراءة ثقافية) مهمتها ربط النص بالجهات التي كوّنته، ذلك أن «قيمة النص تتحدّد بصيغة اندراجها المضاعفة في التشكيل الإيديولوجي، وفي النسل المتوافر من الخطاب الأدبي، بهذه الطريقة يدخل النص في علاقة مع سلسلة محدَّدة دوماً من القيم والاهتمامات والحاجات والقوى والطاقات المحدَّدة تاريخياً والتي تحيط به: إنه لا يعبّر عن، ولا يُعيد إنتاج مثل هذه الأشياء- لأن النص مصنوع من الكلمات لا من الحاجات- بل إنه يبني نفسه ويشكّلها داخلياً في علاقة مع العلامات الإيديولوجية التي يُشكّل نظامها الرمزي»(5). والناقد هو من يضع الأنساق المضمرة للنص موضع المساءلة الجادّة، كي يعيد قراءة النص من زوايا مختلفة، ولذلك لا نعثر على شروط ومحددات تضعها المنظومة الثقافية لعمل الناقد الثقافي، بل تمنحه حرية الدخول إلى النص، ومحاكمته بعبارات تكشف المرجعيات التي شكّلته.
ولقد سعت الدراسات الثقافية منذ ظهورها في ستينيات القرن العشرين إلى فحص العلاقة بين الكتابة والمجتمع في بنى النصوص، أي بـ»تنصيص التاريخ»(6)، من خلال استجواب المرجعيات المهيمنة في الثقافة المُنتجة، ولهذا فالدرس الثقافي يضع «النص داخل سياقه السياسي من ناحية، وداخل سياق القارئ من ناحية أخرى»(7)، وهذا الأخير يعيد قراءة النص والسياق الذي نتج عنه، ولا يمكن كشف دلالاته المستترة إلاّ بإنجاز تصوّر كلّي حول طبيعة البنى الثقافية للمجتمع، وإدراك حقيقة هيمنة تلك الأنساق المؤسسة على فكرة الإيديولوجيا ومفهوم المحتمل في صراع القوى الاجتماعية المختلفة(8)، ولذلك نجد من طبيعة ذلك النقد السمة التحليلية ومساءلة التراث والتاريخ والمؤسسات الثقافية وأنساقها مساءلة فاحصة شكوكية، وعدم الاعتراف ببراءة الخطاب النقدي من إيديولوجيات تلك المؤسسات.
وعلى هذا نجد الناقد(سينفيلد) يمنح الناقد الثقافي سمات، منها:

  1. الرفض: عدم القبول المباشر للنص أو الإعجاب به.
  2. التفسير: تحليل النص من زوايا نظر مختلفة.
  3. الانحراف: الابتعاد عن التسلسل المنطقي للعلاقات التي يقدمها النص.
  4. الانحراف التاريخي: إعادة ارتباط النص على وفق المؤسسات الثقافية التي أنتجته من أجل إعادة توظيفه في ظروف تاريخية جديدة(9).
    ولعلّ تلك السمات تُمكّن الناقد من فهم المرجعيات التي تقف وراء صنع النص، الأمر الذي يجعله مُطالب بإدراك الأدبي والثقافي. فالوعي بالبُعد الثقافي يوسّع دائرة قراءة النص، وتدخل الثقافة بوصفها عنصراً مباشراً توجّه الكاتب، ولهذا على الناقد أن يدرك ذلك البُعد، ويكشف عن خفاياه. وعلى هذا الأساس يمكن إدراك معنى النص في ضوء ذلك الوعي؛ لأن الناقد ينتبه للعناصر الثقافية والأنساق التاريخية التي نشأ النص فيها وتحوّل بها، أي تراثية النص التي تمثل امتداداً تاريخياً للثقافة الراهنة، ولهذا نجد الناقد يواجه النصوص «من خلال الأنظمة المترسّبة في لا وعيه، ومن خلال ذكرياته القرائية»(10). فالعناصر الثقافية تحتفظ بقيمتها داخل الثقافة بوصفها قيماً مؤسِسة للثقافة، وبوصفها متخيلاً له قيمته الإيديولوجية داخل الذاكرة الجمعية.
    وحققت الدراسات الثقافية النقلة النقدية في قراءة الناقد، إذ مكّنته من تأويل مُجمل العلاقات الثقافية، وكيفية ارتباطها بالسياق داخل النص الأدبي، أي أن الناقد لا يكتفي بأدبية النص، بل يتناوله بوصفه خطاباً ثقافياً يشتمل على الجمالية والبنيات الاجتماعية بوصفها مكونات ثقافية أسهمت في تشكّله، مما يمكّنه من معرفة خصائص السياق التاريخي(11). وهذا التحوّل للمعاني التي تحملها النصوص المختلفة تمكّن الناقد من إدراك النص والثقافة اللذين ينبثق عنهما المعنى.
    والخطاب العربي بدأ يتخطّى سمة التحوّل الثقافية بعد حرب 1967، إذ أخذ يلامس مستوى الفاعلية الإيديولوجية في الواقع التاريخي المخصوص الذي أضحت الأمة العربية تحيا فيه(12)، ذلك أن الشروط الحافّة بهذا الواقع التاريخي حملت المساءلة الثقافية في الوطن العربي إلى صدارة العمل الإيديولوجي، وقد دفعت تلك الهزيمة إلى تحريك الدرس الثقافي في الخطاب العربي لبحث أسباب الفشل وتخطّيها، وصولاً إلى الحلول الكفيلة بتخطّي الواقع المتخلّف. ولهذا لا بُدَّ من اعتماد نقد ثقافي يتجاوز الأسيجة التراثية التي تهيمن على المنظومة الثقافية العربية؛ ذلك لأن الاجترار للمعرفة العربية ترك أثراً سلبياً في بنية الفكر العربي والخطاب الثقافي العربي، إذ نجد أن الخطاب الثقافي، بفعل تلك العملية،(يُتفّه) الفكر والأفكار، مهما بلغت أهميتها الثقافية، فضلاً عن أنه لا يتعامل معها بواقعية، بمعنى أنه يفرّغها من محتواها، وينقلها إلى مجرّد أنموذج يؤدي وظيفة الوهم الإيديولوجي لا أكثر، ولذلك ارتبط النقد بقوى التغيير في تلك المرحلة، وللخروج منها لا بُدّ من تحرير الإرادة، لا الانحناء للآخر الغربي.

هوامش:
(1) يُنظر: النقد والنقاد المعاصرون: 183-184، ومناهج النقد المعاصر، د. صلاح فضل: 44-46.
(2) اتجاهات النقد المعاصر في مصر، شايف عكاشة: 68.
(3) يُنظر: ثورة الأدب وأدب الثورة، محمد مندور: 10.
(4) يُنظر: اتجاهات النقاد العرب في قراءة النص الشعري الحديث: 80-92.
(5) النقد والإيديولوجية: 219.
(6) النسق الثقافي- قراءة ثقافية في أنساق الشعر العربي القديم، يوسف عليمات: 16.
(7) الخروج من التيه- دراسة في سلطة النص، عبد العزيز حمودة: 259.
(8) يُنظر: النسق الثقافي- قراءة ثقافية في أنساق الشعر العربي القديم: 11.
(9) ينظر: م.ن: 14-15.
(10) نحو جمالية للتلقي، جان ستاروبنسكي: 42.
(11) يُنظر: من قراءة النشأة إلى قراءة التقبّل، حسين الواد: 111.
(12) يُنظر: خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر، د. سهيل الحبيب: 26-27.

  • تدريسي في كلية الآداب/ جامعة بابل

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة