لأسباب عديدة تم التطرق اليها في الكثير من المناسبات، افرزت العملية السياسية لعراق ما بعد “التغيير” نوع من البرلمانات تزداد بؤساً وفشلاً مع كل دورة انتخابية، وهذا ما أكدته الدورة الاخيرة وما رافقها من عزوف كبير عن المشاركة فيها ومن عمليات حرق لصناديق الانتخابات ومن اعادة فرز يدوي والكتروني، ومن ثم الاتفاق على لملمة افرازات تلك الفضائح بين حيتان الكتل التي تلقفت مقاليد امور الغنيمة الازلية لحقبة الفتح الديمقراطي المبين. حصيلة كل تلك الاصطفافات والمناخات غير السوية (البرلمان الحالي) وبالرغم من حراجة وخطورة الموقف الذي تمر به البلاد، بعد انطلاق موجة الاحتجاجات الشعبية وما رافقها من احداث مأساوية أودت بحياة أكثر من 300 متظاهر غالبيتهم من شريحة الشباب، وعجز الحكومة عن تقديم اجابات مقتعة وصريحة عما جرى وبنحو خاص في موضوع الجهة التي تقف خلف عمليات القنص وغير ذلك من الاحداث التي عادة ما تنسب الى طائفة الاشباح والمجهولين؛ نجد البرلمان وعبر كتل ومصالح وعقائد تفننت في مجال فقه “الانحناء أمام العاصفة” تمرر وبكل رشاقة سلسلة من مشاريع القوانين التي لن تضيف الى المشهد الملتبس الراهن الا المزيد من العتمة والالتباس.
لقد حذرت مراراً وتكراراً من مغبة الهرولة خلف الخطابات والاجندات التي توهم المحتجين بامكانية التغيير الثوري أو الجذري للاوضاع، والى ضرورة التعاطي بوعي ومسؤولية مع تحديات الوضع الراهن، ومن أهم الخطوات التي بمقدورها مساعدتنا في هذا المجال؛ هي عدم الافساح للبرلمان الحالي بتمرير هذا النوع من التشريعات الفئوية والترقيعية، واجباره على تشريع القوانين ووجود المؤسسات الخاصة بالانتخابات المقبلة، قوانين تقطع الطريق أمام اية محاولة لاعادة تدوير هذه البضائع النافقة التي رافقتنا طوال أكثر من 16 عاماً على ما يفترض انها مرحلة للانتقال صوب الديمقراطية والتعددية ومؤسسات الدولة الحديثة. لا نحتاج من البرلمان الحالي غير ذلك، وهذا ما سيضع عربة التحولات على الجادة الصحيحة، بعيدا عن تقاليد العنتريات الفارغة والاجندات الغريبة واحلام البعض في العودة الى “الوليمة” وغير ذلك من التجاذبات وتصفية الحسابات السياسية والفئوية الضيقة وما تعده المطابخ الاقليمية والدولية.
علينا ان نتذكر جيداً حقيقة ما افرزته مرحلة ما بعد زوال النظام المباد؛ من كتل وجماعات وعقائد وما اتسمت به من نزعة للتناحر فيما بينها وقدرة لا مثيل لها لاعاقة بعضها للبعض الآخر، هذه النزعة لم تخفت مع تصاعد الاحتجاجات وحسب بل اشتدت وباتت مستعدة للكشف عن ملامحها الأكثر بشاعة، حيث لا اهمية لأمن ووحدة ومصير الوطن لدى الكثير منها، لا شيء سوى ما يعصف بمخيلاتهم المريضة من اوهام واحلام. لذلك كله ينبغي على المحتجين (اصحاب المطالب الوطنية العادلة والمشروعة) تفويت الفرصة على هذا النوع من قوارض المنعطفات التاريخية. ليس هناك أدنى شك من صعوبة انتهاج هذا السبيل، لكنه يستحق رص كل الجهود خلفه، فهو السبيل الناجع لانتزاع الحقوق بشكل واقعي يتفق والامكانات الفعلية، في مواجهة صعاب ومخلفات واهوال المراحل التي عشناها قبل “التغيير” وبعده. لقد كشفت وقائع ما بعد الاحتجاجات، عن حجم الاغتراب الذي يعيشه اعضاء هذا البرلمان عن المجتمع، وعن الحاجة الملحة لعودتهم الى منازلهم وفسح المجال أمام نوع آخر من الانتخابات تتحقق فيه روح الديمقراطية وفلسفتها (اريد برلمان يمثلني) ولا يقتصر على آلياتها المعطوبة والمنتهكة…
جمال جصاني