ليس بالغضب وحده..

لقد كشفت التظاهرات التي انطلقت في (1/10/2019) عن فقدانها للعديد من المقومات الاساسية، والتي تم الاشارة لها في مناسبات سابقة، الا انها امتلكت خزين هائل من اليأس والغضب من سياسات وممارسات الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور “الغنيمة الازلية” بعد استئصال المشرط الخارجي لسلطة النظام المباد. وهو غضب عادل ومشروع تماماً، لكنه ليس لا يكفي وحسب بل ستجد فيه القوى المتربصة بالمشهد العراقي والتي لا تقل اجراما وتنافرا وتطلعات العراقيين المشروعة في الحرية والعيش الكريم، عمن خرج المحتجين عليهم؛ الفرصة والمناخات المناسبة لاسترداد زمام المبادرة فيه. علينا الاتفاق على حقيقة ما تمتلكه قوى الردة والتخلف من قوة وسطوة وامكانات ودهاء واستعمال واسع ورشيق لشتى انواع الواجهات والعناوين، على العكس من المعسكر المقابل لها والمخترق من كل انواع المخلوقات والجماعات الذيلية والانتهازية والتي لا تجيد غير اجترار الشعارات والخطابات و”العنتريات التي لم تقتل ذبابة” كما قال نزار قباني ذات خيبة.
أكثر ما تحتاجه هذه الاحتجاجات الغاضبة والمشروعة؛ هو اليقظة والحذر لا من المتخصصين بركوب مثل هذه الموجات الاحتجاجية وحسب، بل من الذين يسبغون على حماستهم طفح واسع من الاطراء المجاني والتبجيل الذي يصل عند البعض منهم الى حد الاسطرة، لا سيما المانشيتات الضخمة التي اعلنت عن ولادة ثورة وانتصارها وغير ذلك من علف هلوسات “الافندية” التي تنشط في مثل هذه المناسبات. شريحة الشباب والتي تشكل الجسم الاساس للاحتجاجات ورأس رمحها، لا تحتاج لرفع منسوب الغضب والحماسة لديها، فهي تمتلك منهما ما يفيض عما تحتاجه هذه النشاطات. ما يحتاجونه على ارض الواقع هو الوعي بطبيعة الصراع الذي يخوضونه والمحطات والاطوار التي تنتظرهم على هذا الطريق. عليهم اكتساب الخبرة والحنكة في التعاطي مع ما يواجهونه من خراب هائل وثقافة بالية وسكراب مؤسسات رسمية وشعبية تديره طبقة سياسية يمتد نفوذها لكل تفاصيل حياة الدولة والمجتمع. ان زحزحة كل ذلك يتطلب الاستعداد لمشوار طويل من الكفاح المعزز بقائمة مطالب واقعية وخطط لانتزاع الحقوق تدريجيا، تمهيدا لولادة قوى ووعي وتنظيمات تنتصر للديمقراطية والتنمية الشاملة والحريات.
لقد آن الأوان لوجود طراز آخر من القيادات والملاكات التنظيمية (سياسية ونقابية) تمثل الضد النوعي لما يتقافز حاليا على وغف المنابر والمواقع والمنصات. فمن دون ذلك لن يترك ممثلي هذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة مواقعهم في المفاصل الحيوية للدولة والمجتمع. قيادات متخففة من اعراض النرجسية المتورمة والتي يفضحها الاصرار على “صورني وآني ما أدري” وغير ذلك من وسائل الترويج والتسويق المثيرة للتقزز والاشمئزاز. قيادات مسلحة بفهم عميق للمخاطر والتحديات التي تواجه تطلعاتهم ومطالبهم العادلة والمشروعة، ويجيدون فن التفاوض على انتزاعها وفق سلم أولويات يرفد بعضه البعض الآخر. علينا ان نتذكر جيداً ان “الفضيلة وسط بين رذيلتين” فالحذر الحذر اليوم ممن يدفعون بكم الى متاهات التطرف والعدوانية والغضب المنفلت، لأن ذلك سيضعكم تحت رحمة الرذيلتين؛ سدنة الاجرام والفساد، وشركاءهم في نهاية المطاف المتطرفون من شتى العقائد والهلوسات. ادرك جيدا ان ذلك ليس بالامر الهين، لكن لا مناص منها لانتشال مشحوفنا المشترك مما يتربص به من متاهات تزيد من عتمة المشهد الراهن والتباساته…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة