فيلم THE FATHER: إعادة النظر في الثوابت

من الافلام المهمة التي عرضت في مهرجان الجونة السينمائي

أندرو محسن

كثيرة هي الأفلام التي تتعرض للعلاقة بين الأب والابن، الكثير منها يقدمها في شكل مضطرب، وإن كانت العادة هي تقديم الأبناء وهم في مرحلة الطفولة أو المراهقة مثل الفيلم الروسي “The Return” (العودة) لأندريه زفياجنتسيف. فيلم “The Father” (الأب) قرر التركيز على العلاقة بين ابن في الأربعينيات من عمره ووالده العجوز، يجتمعان في لحظة حساسة وهي جنازة الأم، ليقدم لنا علاقة شديدة الاضطراب وشديدة الثراء في الآن ذاته. الفيلم من إخراج كرستينا جوزيفا وبيتر فالجانوف اللذان كتبا السيناريو أيضًا، ويعرض ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الجونة في دورته الثالثة، بعد حصوله على الكرة الكريستالية من مهرجان كارلوفي فاري.

منذ بداية الفيلم يتضح لنا وجود توتر في علاقة الابن والأب لكننا لا نعرف مداه، إذ يبدو في البداية أنه ناجم عن أجواء رحيل الأم وجنازتها، لكن مع الوقت نكتشف أن الأمر أبعد من ذلك بكثير، إذ ندرك أن هناك الكثير من التصدع بينهما، فالأب فاسيل (إيفان سافوف) لا يحترم ابنه بافيل (إيفان بارنيف) ولا يوفر جهدًا في إظهار هذا أمام الناس، بينما الابن يحاول بقدر الإمكان تمالك أعصابه والتعامل مع الأب للخروج بأقل خسائر ممكنة.

هذا التدرج في الكشف هو واحد التفاصيل المميزة في هذا الفيلم، نحن لا نأخذ أية معلومات مجانية، كل تفاصيل العلاقة بين الشخصيات المختلفة نكتشفها تدريجيًا من خلال الأحداث، علاقة الأب والابن، سبب إخفاء الابن وفاة أمه عن زوجته، وسبب إخفائه السر وراء عدم حضور زوجته للجنازة عن أبيه، جميعها تساؤلات تُطرح في البداية، ليبدأ المشاهد في تكوين فرضياته، ثم في استبعادها تدريجيًا واحدة تلو الأخرى مع مرور الأحداث وكشف المزيد من التفاصيل.

يطرح الفيلم فكرتين رئيسيتين في أحداثه، الأولى هي الإيمان بالخرافات، والثانية هي العلاقات الأسرية المتفسخة. إذ نجد أن الأب يخرج في رحلة شاقة دون تخطيط، ودون استخدام للعقل بسبب شعوره أن زوجته الراحلة تريد أن توصل له رسالة ما لم تقلها أثناء حياتها. لكن المميز في الفيلم، أنه رغم أن العقل يستبعد بالتأكيد أن تكون الأم سترسل رسالة بعد موتها، فإنه يدخلنا في حالة من الحيرة إذ أن إيمان الأب بالأمر يجعل المشاهد أيضًا ينتظر هذه الرسالة، بينما يقين الابن بأن والده يسعى نحو خرافة يرجع بالمشاهد إلى أرض الواقع مرة أخرى، وهنا تجدر الإشارة إلى الأداء المميز من كلا الممثلين اللذين عبرا ببراعة عن الشخصيتين، فإيفان سافوف يقدم لنا الأب الواثق من رأيه الذي لا يأبه لأي شيء آخر حتى مشاعر ابنه، بينما إيفان بارنيف حمل عبئًا أكبر كما سنذكر في السطور التالية.

على الجانب الآخر نجد أن الفيلم يقدم معالجة مختلفة للعلاقة بين الشخصيتين الرئيسيتين، كما ذكرنا في البداية أنه ليس من الشائع مشاهدة العلاقة بين أب وابن في هذه المرحلة العمرية، وهكذا نجد أن تفاصيل العلاقة كانت مكتوبة بعناية شديدة، وبالذات في ما يخص الابن، إذ أن موقف الأب كان أكثر وضوحًا وثباتًا كما ذكرنا، بينما نشاهد بافيل مشتتًا طوال الوقت بين أن يعود لزوجته وحياته الطبيعية ويترك الأب الذي لا يقدره يكمل رحلته وراء خرافاته، وأن يستمر في التمسك بوالده بسبب بقايا صلة الدم الموجودة بينهما.

لكننا من جانب آخر يمكن أن ننظر إلى الفكرتين من منظور واحد، إذ مثلما يتلاعب بنا الفيلم في نصفه الأول بالذات في موضوع الخرافة ورسائل الأم، فإنه يتلاعب بنا أيضًا في الثوابت التي تخص علاقة الأبناء بالآباء، لا يوجد ثوابت ولا عاطفة واضحة وممتدة، كل الأمور هنا هشة وقابلة للانهيار. هذه التفاصيل التي بُني عليها سيناريو فيلم ”The Father“ تجعله واحدًا من أفضل الأفلام التي تناولت هذه العلاقة التي تبدو راسخة، لكنها دائمًا ما تحتمل زيارة جديدة تغير من الثوابت وتعيد النظر فيها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة