مجرد رأي!

كنت أسأل نفسي باستمرار لماذا نجحت النخبة العربية في النصف الأول من القرن العشرين وفشلت في النصف الثاني منه، ولماذا أدت رسالتها على أتم وجه في حقبة ما، ثم توقفت بعد ذلك بوقت قصير؟
في الأصل يوم ولدوا، لم تكن هناك بلاد عربية على خارطة العالم. تمكن هؤلاء من استعادتها بعد قرون من الانزواء خلف مسميات إمبراطورية. حتى إذا ما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وجدوا أنفسهم منقسمين إلى دول عديدة تحت وصاية غربية، مع وعود هنا وآمال هناك. كان ثمة تغيير طفيف في طريقة العيش. ومع بضع معارك متعبة خاضها أهل البلاد أيقن الجميع أن لا بد من الانتظار إلى أجل غير معروف، وكانت تلك نقطة الشروع.
كان الجيل الأول من النهضويين قد انتهى إلى الإعلان أن العرب أمة تستحق الحياة لا أن تعيش على الهامش. وفي نهاية القرن التاسع عشر سلم الراية إلى الشبان الأحرار، الذين ظلوا أوفياء للفكرة العربية حتى آخر رمق لهم على أعواد المشانق في بيروت والشام!
لم يكن هذا الجيل مجمعاً على أولويات النهضة، وكان هناك الكثير من الاختلاف في الرأي. دعا بعضهم إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية، في ما ارتأى آخرون الالتفاف حول الجامعة الإسلامية. غير أن هذه الخلافات لم تنل من أهم مقومات النهضة وهي اللغة، التي أذكتها حدة المعارك قوة وبلاغة!
في القرن العشرين انقسم الناس إلى ثلاث شعب. سلفيون ينفرون من السياسة ويحرمون الحضارة ويمقتون التحديث، حتى لو كان ذلك سيارة أو خط تلغراف أو بيت آجر، وعلمانيون يرون في الغرب مثلاً أعلى حد الإبهار.. يزدرون التراث ويلعنون التأريخ، ويعدونهما سبباً لكل ما أصابهم من أذى وما لحق بهم من هوان.
كانت النخبة التي تولت الزعامة وقادت التغيير تنتمي إلى شعبة ثالثة تحاول التوفيق بين هذين الطرفين. فهي تؤمن بالتصالح مع التراث، والأخذ عن العلمانية. كانت تعول على بعث الأول ونقده ومراجعته وليس القطيعة معه أو الإنكار عليه. وفي ذات الوقت شراء ما يمكن شراؤه من منتجات الحضارة الغربية.
بهذه الطريقة غادروا زمنهم مسرعين إلى حقبة أخرى، لكنهم لم يفقدوا ذاتهم، ولم يتنكروا لتاريخهم، ولم ينقلبوا على وطنهم. كانوا يشعرون أنهم عرب أقحاح، وليس أي شئ آخر. فبنوا المدارس، ونشروا الثقافة، وحاربوا الخرافة، وأنشأوا الجيوش، وأطلقوا المبادرات، وأرسلوا البعوث إلى العالم المتحضر.
هذه النخبة لم تستطع مواصلة المسيرة، فتوقفت في الستينات. لم يسر من خلفها على هذا النهج، ولم يؤمن من جاء بعدها بهذه الفكرة. فريق مشى بدون ترو نحو الغرب. استبدل لسانه وتفكيره بآخر لا ينتمي إلى محيطه. وخطا آخر خطوات ثقيلة نحو الوراء. وكانت النتيجة أننا خسرنا الظاهرة التي نقلتنا إلى الأمام، وأنقذتنا من الظلام، وعبرت بنا مرحلة الخطر في مرحلة حاسمة من التاريخ!

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة