علوان السلمان
الشعر.. كائن يمتلك ذاكرة وتاريخاً.. فالحركة الشعرية بامتداداتها الزمنية شهدت انعطافات وتحولات فنية وفكرية مبنى ومعنى تتوافق والتحول الحضاري.. ابتداء من عموده ومروراً بتفعيله وانتهاء بنثريته التي تفاعلت والمنظومة الثقافية وخطابها الشعري الكوني.. فتجاوزت القوالب الجاهزة وحققت جماليتها بإرادتها الواعية وجملها المكثفة.. الموجزة.. ولغتها الايحائية الصورية التي هي وحدة المعمار والبناء النصي والتي بمجموعها يتآلف المشهد.. ومن تجاور المشاهد بتشابكها يتشكل العالم الشعري ويولد النص..
وبالوقوف على عوالم المجموعة الشعرية (متى يكون الموت هامشا؟)..التي انتجتها ذهنية شعرية ونسجتها انامل شاعرها انمار مردان.. واسهمت دار الفرات للثقافة والاعلام في نشرها وانتشارها/2017..كونها تشتغل على اسلوبين فنيين متداخلين: اولهما اسلوب الاشتغال اللغوي الذي شكل هاجساً قلقاً عند المنتج(الشاعر) لان النص الشعري يبدأ باللغة وينتهي بها.. وثانيهما اسلوب التركيز والتكثيف لخلق الصور الشعرية التي تكشف عن عمق دلالي لأنها تجعل من اللغة فكراً والمرئي تخييلا.. ابتداء من العنوان النص الموازي المختزل للمتن عبر الترميز وجمالية الايجاز وكثافة الدلالة.. مع الاحتفاظ بوظيفته الجاذبة للمستهلك صوبه من اجل تحقيق الوظيفة التداولية التي تكمن في اغواء الاخر. بفونيماته الاربعة المعتلية للوحة تجريدية متسائلة عبر اجسادها الشبحية الكاشفة عن الفعل الذي احتضنته علامتان اسميتان اسم المنتِج وجنس المنتَج الادبي..
تساءلت..
كم هو طويل هذا العناق القصير/وانا اراوده بطهارة
لا يتجرأ احدهم ان يحنيه الى غربتين..
أي جسد باهت هذا/وانا ارى وجهي يترسب على هيئة قبر
وانت تضحكين بطفولة لا صحة لها/تنثرين عطرك بلوعة ساكنة
وانا احاور الدفء كناقوس كنيسة /واخيط الحاجز بريشة قماش..
لم يبق من الوقت الا انت/وبعض فوضى صور
فلا تستعجلي خطوة/ ولا تتأخري خطوة
وانا بين خطوة وخطوة /تستيقظ في عيني
ألف اشارة/الف حضارة/والف مطار… /ص10 ـ ص11
النص بمجمل تحركاته وانتقالاته الرامزة ودلالاته اللفظية المعبرة عن الحالة الشعورية والنفسية بأسلوب دينامي حالم.. وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرته التعبيرية المختزلة لتراكيبها الجملية..المتجاوزة للقوالب الجاهزة.. فكان تشكله على وفق تصميم ينم عن اشتغال يعتمد الجزئيات وينسجها نسجاً رؤيوياً يرقى من المحسوس الى الذهني.. وهذا يكشف عن منتج يعي ذاته الخالقة لتجربتها المدركة لهواجسها المضطربة على المستوى العاطفي والنفسي.. لذا فهو يترجم احاسيسه وانفعالاته بإبداع رؤيوي عميق بتوظيف تقانات فنية واسلوبية محركة للنص.. كالرمز الذي يسهم في الارتقاء بشعرية النص وتعميق دلالاته.. والتنقيط (النص الصامت)الدال على الحذف والمستدعي للمستهلك(المتلقي) لملء بياضاته والاسهام في بنائه.. اضافة الى تقانة التكرار الظاهرة الصوتية التي تتضن دلالة نفسية وعاطفية خارج الذات واضفاء موسقة شعرية تخفف من حدة الازمة الذاتية والتعبير عن حالة القلق التي يعانيها المنتج.. فضلا عن تركيزه على العناصر الشعورية والنفسية الخالقة لجدلية(الذات والموضوع) لخلق نص الرؤيا في اطاره البنيوي والوصول الى اللحظة الانفعالية الخالقة للوظيفة الجمالية عبر بناء يفجر اللغة بوصفها مادة بنائية لصور ايحائية تتكئ على الايجاز واثارة الخيال باستعمال المجاز المعبر عن لحظة التوهج..
انتِ حلم /توسد الفراشة جنحا
والشواطئ مرمية بالكلاب
الوانك لا ترسم وجهي
وجهي حمال اوجه
صعب افتراسه
القصة يقظتي لا نهاية لها
المشط يفترس الرأس احيانا
يزيده ألقاً او يرميه كجائع
جـ..ا..ئـ..ع
انا جائع../انا جائع..
انا لا اشتهي ان اكون /ص65
فالنص يسجل اللحظات بكل تكويناتها التي تشكل اهم الاسس السايكولوجية لتحريك الساكن الوجودي للأشياء في مجال التجربة الابداعية التي هي القدرة على التخييل عن طريق التوليف بين الافكار من اجل خلق نص قابل على التحرك في الزمكانية بحكم طاقته الدينامية الفاعلة والمتوالدة في ذاتها النصية لتستفز المتلقي وتحرك مكنونه الفكري من اجل استنطاق الصور الشعرية والكشف عما خلفها..
وبذلك قدم الشاعر نصوصاً تحاول خلق عالم متميز بنسقه الجمالي ضمن وحدة موضوعية معانقة لفعلها الاستدلالي والانفعالي الشعوري الذي ينم عن عمق المعنى والرؤية باعتماد نثرية شعرية تلتقط الجزئي لخلق عوالمها الجمالية والاسلوبية..