الوصف الاشاري للغة العزاوي

اسماعيل ابراهيم عبد

اللغة نموذج لكليات وفرعيات قولية، وحركة وزمن، وشيئيات كبرى وصغرى، وقيم، ستفضي الى تعبير متغيّر يلائم مرحلة الاستعمال مما يُصار من خلالها الى تبئير المظهر الكتابي المجلل للحدث الروائي، باعتبار ان الحدث الروائي نموذج يجمع الرؤى الى الأدوات، الى مستويات الظواهر اللغوية، في آن واحد يضمن دينامية الروي (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) رواية نعدّها نموذجاً يوحي بالقول المصمم لوقائع لغوية، فلسفية واستعمالية، فردية منتقاة تلائم النمط التواصلي للوصف الإشاري، لننظر:
تقدم خطوات في الشارع الموحل. هل يمكن للدم أن يفتح نهار الحرية؟ تقدم خطوة. حدق في طفل ساكن. ضربة واحدة ويهدأ الفعل الى الأبد ليصبح قضية …لابد من ممارسة نمط معين من الحيل الصغيرة لجر المخلوق الضئيل جانباً. سار. تبعه الطفل بهدوء. التفت مرة أُخرى، ولم يجده. وفكر بعار إن كان يستطيع حقاً تجميد هذه البراءة الى الأبد.
يقوم الروائي فاضل العزاوي بوصف حدثي ومكاني موارب مازجاً بين القضايا الكبرى (الفلسفية) والقضايا النوعية (الحالات الاجتماعية ـ كالطفولة)، والقضايا الفرعية (الذاتية ـ الشخصية)، يعتمد بذلك على طبيعة نمطية تقسّم البنى الروائية ـ على الرغم من تداخلها ـ الى رئيسية وفرعية، وفرعية من فرعية، مثلما هي الظاهرة اللغوية، في التكون السردي للرواية.
هذه الرواية وفي مقطعها السابق ذكره تطرح ـ بلغة إشارية واصفة ـ قضايا كبرى في الفلسفة الوجودية، منها تحقق الحرية الكاملة من خلال الأفعال البشرية الكبرى كالقتل، التجاهل، الإدانة الجماعية، من ثم يطرح روحية العدم المثالية يطرحها كتوجه من البث المتناص مع سارتر والبير كامو بصورة مخاتلة، إذ البطل شخصية مسحوقة:
ـ تحاول سحق الطفولة .
ـ تحاول إدانة سفك الدماء من أجل الحرية.
ـ تحاول تحقيق الحرية بالإعتوار السلوكي والحضاري، متشبثة بتصميم حدث لفعل إنساني جليل، كما تراه شخصية فاعل الأحداث.
في الوقت ذاته تتفرع هذه القضية الفلسفية الجمالية، اللغوية السردية الى فروع اجتماعية يمثلها المحيط الذي يتحرك في إطاره الفعل الإنساني، فحركة المجتمع هي الصانعة لوجود الطفولة كونها قضية نوعية مرهونة ببراءة وجمال الطفل. وهذه وحدها قضية تحتاج الى تبريرات روائية، كاصطناع المواقف والأحداث ووصف المكان، وتغيير درجة الحركة الزمنية.
لقد جُعل من وجودية الطفل وتردد البطل (ممارسة روائية طقوسية) تحيل الى أن العقل الروائي يسوّغ فنية القول بفنية الحركة الحدثية، اما قضية الخلاص الفردي فتكاد لا تبين إلاّ من خلال المحاورة الفردية الذاتية حيث يعدّ البطل نفسه لمهمتين، القيام بالقتل، والتأسف اللا مجدي. هذه النزعة ستكبر فيما بعد لتحتل، المساحة المعكوسة، أي تصبح قضية كبرى وتنسحب القضايا الكبرى الى المرتبة الثانية من الاهتمام السردي للوصف الإشاري. لنلاحق نصاً آخر (فيه) تحتل القضية الفرعية مستوى نوعياً للوصف:
ذات يوم نهض موسى بن أحمد عام 1914 وانضم الى الجيش العثماني الذاهب الى القتال .. عام 1916 قتل من الخلف وهو فوق جواده لأنه قاوم الخيانة.. عام 1917 قاوم الجندي الشجاع موسى بن أحمد حتى الطلقة الأخيرة .. ………… مات على الحدود الروسية. ………… لم يدفن وفق الطقوس الدينية. ………… ربما لم يدفن إطلاقا.
في المقطع أعلاه تحتل لغة الوصف من المرتبة الثانية النوعية أو الوسطى المرتبة الأولى في السرد الروائي، فقد وضع همَّ الحرب والدفاع قضية اجتماعية أساسية، وضع لها حدوداً ومساحة للعرض تجعلها قضايا كبرى بلغة إشارية غير فلسفية ليبين أن مثل هذه القضايا وما سيظهر من نتائجها تحتاج الإشارة اللغوية الواصفة التي تخص الحدث الاجتماعي، فيما يضع القضايا الأخرى دون هذا المستوى، هذه القضايا هي المتعالقات الحدثية للسنوات 1914 , 1916 , 1917، تلك سنوات الشجاع موسى بن أحمد في الحرب العالمية الاولى وما بعدها. إما القضية الفلسفية فقد وضع لها اعتبارين منزويين مضمرين تحت ضجيج الأحداث الموجعة، هما:
ـ القتل من الخلف، أي استباحة الشرف العائلي.
ـ الدفن ليس بطريقة الـطقوس الدينية، حيث الدفن للشهيد يكون بدون تغسيل، ويعني هذا أن الجندي لم يكن شهيدا (مثلما يتمنى الراوي) على الرغم من أنه قتل في الحرب، وقد تكون الإشارتان مرتبطتين بماض متصور للبطل العدمي. هذه النصوص فيها من التخيل والواقعية ما يؤكد الضرورة الحتمية لعدمية لا انتماء الشخصية. لننظر في المقطع:
ها أنا ذا في كهفي الزجاجي أنتظر قاتلي الذي قد يجيء كريح من البحيرة. …العالم موحش والأيام تعاش لكي يكون هناك تاريخ يمكن التحدث عنه…لقد كنت الشبح المتأمل في جمال الأسابيع عن الحلم. …. الإرهابيون الذين قتلت أجدادهم يتقدمون نحوي. …. أعشاب باردة خضراء تتسلق جدران الأفق. …. كانوا يتقدمون بصمت وحسن نية لـمجابهة الحيوان العالِم. …. كائن وحيد بين الأنصاب. …. سوف أُشنق بدون محاكمة.
إنه إذاً العالِم، الشبح، الراوي، خالق المدن الحجرية، صائغ المدن المدمرة، الفرد الإشاري، أُعطيت له مهمة فنية رئيسية على الرغم من أنه لا يهتم بقضايا المجتمع الوسطى ولا القضايا الفلسفية العُليا، بل أنه وضع نفسه محوراً كليّاً للروي، بمعنى أن لغة الوصف المتخصصة بفروع فروع اللغة، هي اللغة التي تخص الفرد. ان المتن الحكائي أخذ مظهرا لقضية كبرى، وهو ما يستدعي قولنا: القضايا الكبرى، الاجتماعية والفلسفية، انزوت الى قضايا وسطى وصغرى من حيث اللغة السردية الإشارية الواصفة، وهي تهتدي الى: أن اللغة السردية الواصفة، كاستعمال، وكفلسفة، هي الأخرى تقيم مستوياتها على حسب مقتضى الحال. وفي المقطع السابق نفسه، تكون لغة الوصف الفرعية الفرعية هي الغالبة، وهي التي اختص بها فعل وطبيعة شخص واحد، مجهول، إما حركة الإرهابيين فهي القضية الوسطى التي اهتم بها الوصف كونها قيمة اجتماعية سالبة، بينما تنزوي القضية الفلسفية الى المرتبة الثالثة للوصف، على الرغم من كونها ظاهرة لغوية عامة، لسبب تداولي معتقدي هو: (ان خلو العالم إلا من الأعشاب تجريد للقيم البشرية في الوجود والنماء ومن يدعو لهذا التجريد يجب وضعه في المراتب الأخيرة من الاهتمام الإنساني، الفني)!

المصدر المساعد
1 ـ فاضل العزاوي، رواية مخلوقات فاضل العزاوي، دار الكلمة، النجف , 1969: 30، 31
2 ـ فاضل العزاوي، رواية مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة: 62
3 ـ فاضل العزاوي، رواية مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة: 94 , 95

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة