ميخائيل نعيمة الكاتب الصوفي المتنسك

هل كان يقول بالتقمص ووحدة الوجود؟
شكيب كاظم

أختار الكثيرون كتابة ذكرياتهم ونشرها، بعد أن بلغوا الثمانين، وفي الذاكرة مذكرات السياسي العراقي ورئيس الوزراء الأسبق ناجي شوكت (1893-1980) فضلاً عن الطبيب النطاسي كمال السامرائي (1914 -1999)، غير ان ميخائيل نعيمة (1889-28/من شباط 1988) اختار السبعين من عمره ليدونها في سيرة ذاتية تحت عنوان ( سبعون ) بأجزاء ثلاثة، ضمت ثمان مئة وأربع وأربعين صفحة.
ولقد قسم نعيمة كتابه هذا إلى مراحل مهمة في حياته، فـ (سبعون… حكاية عمر) تؤرخ لسنوات نعيمة بدءاً من سنة مولده المفترض 1889 وحتى سنة 1959، فإن المرحلة الأولى منه تؤرخ لحياته منذ مولده وحتى مغادرته بولتافا التي ذهب للدراسة في سمنارها الروحي، وهي تعني مدرسة ثانوية، أو هي فوق الثانوية بقليل سنة 1911، ويعد نعيمة كتابته لسيرته الذاتية هذه، أشبه بالمغامرة، ولكنه ككل الشرقيين، يكون ضنيناً بأسراره الشخصية، عاداً أن تلك الأمور ليس للناس نفع في معرفتها، لذلك أهملتها الإهمال الكامل كله في كتاباتي، إلا في النادر من مقالاتي ، ومن رسائلي إلى اقرب المقربين إليَّ من أصدقائي وأنسبائي. تنظر ص9.
والمرحلة الثانية من كتاب (سبعون) أرخ فيها نعيمة للسنوات التي أمضاها في العالم الجديد، الولايات المتحدة الأمريكية منذ وصوله إلى نيويورك سنة 1911، حيث تواجهه المدنية الصاخبة، ومجموعة هائلة من الأحياء، لجاليات مهاجرة مختلفة فهذا حي سوري، وآخر صيني، ويوناني، وبولوني، وروسي ويهودي وزنجي وإيطالي وإيرلندي. و. و. و. وحتى مغادرتها نحو بيروت في التاسع عشر من نيسان 1932.
لقد ظل هذا المتصوف يحن حنيناً قاسياً نحو لبنان وجبال صنين ومنطقة الشخروب فهو ناسك الشخروب على حد قول صديقه القاص والروائي توفيق يوسف عواد. لقد عاد إلى ضيعة بَسْكنتا والعَوْدَ أحمدُ.
وكان من الطبيعي أن تأتي المرحلة الثالثة من (سبعون) لتؤرخ لحياة نعيمة في معتزله ومعتكفه في كهوف جبل صنين حيث الطبيعة الخلابة والهدوء الشامل، والهواء العليل البارد، وهو الذي شُغف به نعيمة حباً، وحتى سنة بلوغه السبعين من العمر، ولقد أحسن صنعاً إذ دوَّن كتابه المهم هذا في هذه السن، فالإنسان بعده يبدأ بالضعف على المستويات كافة، وما زلت أتذكر – ولاسيما أواخر سنوات عمره التي اقتربت من القرن- أن بعض الخبثاء من الصحفيين، كانوا يجرون معه أحاديث، كانت تحرجه عند نشرها لأن فيها الكثير من الخلط، بسبب ضعف الذاكرة وضمورها.
وإذ ينتظم الطفل ميخائيل نعيمة، صحبة أخويه (ديب) و(هيكل) في المدرسة الأرثوذوكسية في بسكنتا، تلك المدرسة التي يصفها بالمدخل إلى عالم الحرف العجيب الذي سحره وما يزال، بما فيه من طاقة على الخلق لا نفاد لها، فإن (المسكوب) أو (المسكوف) وكنا نطلق عليهم في العراق (المسقوف) نسبة إلى موسكو عاصمة روسية، جاءوا إلى بسكنتا لإنشاء مدرسة للروم الأرثوذوكس ويقرر نعيمة حقيقة طريفة تعود إلى العقد الأخير من القرن التاسع عشر، مفادها أن روسية هي الحامية التقليدية للروم، وفرنسة للموارنة، وبريطانية للبروتستانت والدروز، وتركية للمسلمين. تنظر ص74.
لذا فإنه ينتظم سنة1899 في هذه المدرسة، حيث تبذل للغة العربية عناية خاصة، فضلاً عن الحساب والجغرافية والتأريخ، ومبادئ اللغة الروسية، ولا ينسون درس الرياضة البدنية، ولأنه كان ذكياً وحريصاً، فقد برع في دروسه، ومكافأة له- مع آخرين- ستهياً له فرصة الالتحاق بدار المعلمين الروسية في الناصرة بفلسطين، هذا الصبي الذي ما غادر قريته بسكنتا، والذي كان يحلم برؤية بيروت وسكتها الحديد التي تأتي من دمشق كيف يتسنى له العيش في مغتربه ذاك، وهو الصبي الحيي الحساس؟
أن تسجيله في مدرسة الناصرة، يحتاج إلى إصدار شهادة ميلاد، والأب لا يتذكر سنة ولادته فأنى له معرفة الشهر واليوم؟ والكنيسة التي عُمَّد فيها لا تحتفظ بأي سجل للعماد أو الوفاة أو الزواج، لكن اباه يتذكر انه ولد في موسم (الذبيح) ويا لها من حلقة مفرغة فيقرر الكاهن أنه من مواليد 1889!!
في أوائل أيلول 1902 يغادر الأهل والشخروب صحبة خاله نحو بيروت، ومن هناك وحده يركب البحر نحو الناصرة، ماراً بالدامور، فصيدا فصور فعكا فحيفا ثم يافا، أمضى نحو أربعين ساعة، حتى وصل ساحل حيفا ويترتب عليه مغادرة الباخرة كي يصل إلى الناصرة، يصف هذا الصبي الحساس الذي لا يعرف من أمور الحياة شيئاً هؤلاء البحارة في تلك القوارب بالكواسر والضواري وصراخهم يصم الآذان، لكن المقادير تهيئ لهذا الصبي الغريب الوحيد، من يأخذ بيده وقد رآه في حيرته تلك، سائلاً إياه: هل تعرف أحداً في حيفاً وإلى أين تريد؟ وإذ يخبره إلى المدرسة المسكوبية في الناصرة، يشد على يديه هامساً له: أتبعني يا بني، ويذهب به إلى بيته، فيفطر، ثم يأمر من يوصله إلى الخان الذي تتوقف فيه العربات الذاهبة إلى الناصرة، ويناجي نعيمة هذا الرجل (والذي أرجوه هو أن يعرف ذلك الإنسان، أينما كان – في هذا العالم أو في هذاك- إن الولد الغريب الذي عطف عليه منذ ثمان وخمسين سنة (…) في ميناء حيفا لم ينسَ عطفه قط). ص113- المرحلة الأولى.
وبعد سنوات أربع من الدراسة أمضاها بتفوق، يعلن رئيس المدرسة اختياره، مكافأة له على اجتهاده وحسن سلوكه لمتابعة الدرس في روسية، ويقرر ميخائيل نعيمة (لقد تحقق الحلم، وكان تحقيقه حدثاً عظيماً في حياتي. والآن يركب البحر نحو السمنار الروحي في بولتافا المدينة الأوكرانية التابعة لروسيا القيصرية، فتبهره حرية التخالط المطلقة بين الجنسين، في البيت، وفي الشارع وفي البرية.
تمضي السنوات الأربع، وطالب السمنار الروحي ميخائيل نعيمة، يواظب على الدرس، والحصول على أعلى الدرجات، لكن يحصل في هذه السنة ما يعكر صفو حياته، إذ يضرب طلاب الصفوف الأولى عن الدرس، وأغلقوا أبواب صفوفهم بوجه أساتذتهم، منددين بإدارة المدرسة، وهو ما كان ليشغله هذا الأمر، فهو منصرف إلى دروسه، لكن يحصل أن يحمله الطلاب على إلقاء كلمة في خضم هذا الإضراب، ولعل هذا الاختيار دغدغ نرجسيته، وأناه المتعالية، فانفتحت عليه أبواب الجحيم، وغضب الإدارة، التي عدّته من المحرضين الذين لا يسمح لهم بالعودة إلى مقاعد الدراسة، أبداً ورأفة بهم، فرض عليهم أداء الامتحان في السنة التالية، وهذا يعني خسارته سنة دراسية فضلاً عن حرمانهم من خبرات أساتذتهم، وأن عليهم أداء ما يعرف عندنا في العراق، بالامتحان الخارجي.
ولأنه طالب متفوق، نال رضا الكثير من أساتذته، الذين آزروه يوم تقدم لإدارة المدرسة بعريضة، يشكو فيها حاله، راجياً الموافقة على أدائه الامتحان النهائي، يقول نعيمة «فقبل طلبي، وقدمت امتحاناتي في النصف الأول من آذار، ونلت شهادتي، وبعد أيام كنت في طريقي إلى لبنان». ص272.
المرحلة الثانية من (سبعون) تؤرخ للسنوات التي أمضاها ميخائيل نعيمة، في العالم الجديد، في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ ان وطئت قدماه أرض نيويورك، والتعرف على لسانها الجديد، فهو إذ حذق الروسية أيام دراسته في الناصرة وبولتافا، وورث العربية، فكان يجب معرفة الإنكليزية، لسان عالمه الجديد، وما أكتفى بنيل شهادة في الآداب، وأخرى في الحقوق من جامعة واشنطن، من خلال هذا اللسان الجديد بل بلغ من تمكنه منه أن كتب به عديد كتبه، ومنها ترجمته لكتابه (مرداد) فضلاً عن ترجمته لكتابه عن جبران، الذي كان هو الآخر، قد بدأ يكتب بالانكليزية، بمساعدة صديقته ومؤازرته والحادبة عليه (ماري هاسكل) (1869- 1953) ولاسيما في كتابه (النبي) الذي كان يعرض مسوداته أمامها، وفي المقابل رغبت ماري- محاولة الاقتراب من عوالم جبران – أن تتعلم العربية، وفي أوراق ماري وجبران التي اعتنى بنقلها واستقرائها الشاعر الباحث توفيق الصايغ (1923- 1971) صاحب مجلة (حوار) الذي كثر اللغط بشأنها، منتصف ستينات القرن العشرين، متهمين الصايغ بتلقي معونات مالية من جهات ثقافية أمريكية، فدفعه ذلك إلى إغلاقها، والهجرة نحو الولايات المتحدة، أقول: في هذه الأوراق نعثر على ورقة بالحروف العربية، ولفظها بالإنكليزية، وعليها اسم جبران وماري، لكن مرض جبران وموته المبكر حال دون أن تعرف ماري لغة العرب، وهو ما فصله توفيق الصايغ في كتابه المهم (أضواء جديدة على جبران) الصادر سنة 1966.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة