بنيويات !

لأمر ما أصبحت عاجزاً عن قراءة الروايات الحديثة، التي تصدر في العراق، لكتاب عراقيين أو كاتبات عراقيات. ولم يعد بوسعي قضاء الوقت في تأمل ما فيها من حوادث وانتقالات. وأيقنت أن من الخير لي أن أنصرف عنها لكتابات أخرى، أقل حداثة، وأدنى غموضاً. فهذا ما يلائم طبعي في أقل تقدير.
وسبب ذلك لا يعود إلى ضعف مستوى هذه الروايات أو وجود خلل ما فيها. فهذا ما لا أطيق البت فيه، وأنا محض هاوٍ قليل الخبرة، متواضع الإمكانات. وقد تكون كتبت لجيل غير جيلي، أو لذائقة غير ذائقتي، أو لأشخاص غير شخصي، من يدري!
ولكنني أعزو سبب ذلك إلى أن الموجة الجديدة من الرواية العراقية، وربما العربية أيضاً، تتبنى مفاهيم جديدة لم تكن شائعة من قبل. ولا تجد في نفسها هوى مع كلاسيكيات القرن التاسع عشر، التي تعدها تراثاً شبه بال، لا ينتمي للعصر، بأي شكل من الأشكال.
وجل هذه الأعمال إنما خرج من مدرسة البنيوية التي نفت أي بعد تأريخي للغة. وطفقت تعنى بالشكل لفظاً وصورة، وتعول على القيم الجمالية والفنية، بمعزل عن المضامين الاجتماعية والأخلاقية.
هذه الفكرة مبنية على الفصل بين الفن والحياة، ونفي الصلة بينه وبين النسيج الاجتماعي. فالأخيرة قد تتحقق أو لا تتحقق، وقد تأتي عرضاً أو لا تأتي، لأنها ليست هدفاً بحد ذاته. كل ما في الأمر أنها تؤثر مبنى متين السبك، مترابط الأجزاء، على النظر إلى ما وراء ذلك من أفكار، ومعان، واتجاهات.
غير أن الواقع أن نظرية الفن للفن التي أخرجت المدارس اللسانية الحديثة، لم تتعمد القطيعة مع الإنسان، ولم تنكر عليه توخي المتعة. فهي في الأصل تنشد الإحساس العارم بالجمال. وهي متى ما أيقظت هذه الرغبة فيه فقد حملته على التطلع لحياة جديدة، ودفعته دفعاً نحو التغيير. عدا أن هناك من يرى أن البنى الصوتية والدلالية محكومة بالوظائف التي تؤديها، وبالتالي عدم إمكان عزل اللغة عن مدلولاتها الاجتماعية.
والواقع أن جل ما أنتج بهذه الطريقة في بلادنا لم يلق رواجاً كبيراً، وبقي حبيساً في المكتبات الخاصة، ولم تتلقفه أيدي الشبان والشابات، والطلبة والطالبات، كما كانت عليه الحال في الماضي القريب.
وقد برع النقاد الجدد في الإشادة بهذه الأعمال، والكشف عن مزاياها الفنية، والتنويه بثورتها على مدارس أخرى كالرومانسية. ولكنهم أخفقوا في تحويلها إلى ظاهرة أدبية، على غرار ما حدث للشعر في منتصف القرن الماضي.
وربما يكون هذا الشكل الجديد من الرواية أحد العوامل التي أضعفت الدراما العربية والعراقية، في هذه الحقبة، أيضاً. فالنصوص التي تنفصل عن الواقع، وتبتر الصلة بالحياة، لا تصلح أن تكون مادة لأي عمل فني، يستهوي أفئدة الناس، ويحملهم على الجلوس إلى الشاشة الصغيرة دون حراك، ساعة أو بعض الساعة كل يوم.
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة