سلسلة مقالات من كتاب (مجلة لقمان)

شوقي عبد الأمير

«مجلة لقمان» عنوان لم ابتكره فقد ورد في «سيرة ابن هشام « وهو يروي خبرا عن سويد ابن الصامت , احد حكماء الجاهلية :» ان سويد بن الصامت قدم مكة حاجا ومعتمرا.. فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به, فدعاه الى الله والى الاسلام , فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الذي معك؟ قال : مجلة لقمان, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعرضها علي , فعرضها عليه : فقاله له : ان هذا لكلام حسن . والذي معي افضل من هذا: قرآن انزله الله علي , هو هدى ونور , فتلا عليه رسول الله القرآن , ودعاه الى الاسلام فلم يبعد منه وقال : ان هذا القول حسن…»
هذا كما وردت كلمة «مجلة» في الشعر الجاهلي لدى النابغة الذبياني في قوله:
مجلتهم ذات الاله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب وكما يبدو من مدلولها في رواية سويد بن الصامت وفي بيت النابغة فأنها تعني» الكتاب « وبشكل ادق فهو الكتاب المقدس «ذات الاله» حسب تعبير النابغة وفي كون سويد بن الصامت استخدمها للتعبير عن «لوائح» مكتوبة ذات طابع ديني وقدسي لأنه اوردها في المقارنة مع القرآن , حسب رواية ابن هاشم . ومن هنا تأتي اهمية هذه التسمية التي اردنا من اختيارها التنبيه الى الدلالات القديمة لها.
ظل النثر الجاهلي رهين «المحبسين» محبس الجاهلية ومحبس النثر –ان صح التعبير –فالعرب تميل الى الشعر والشعر ديوانها كما يقال وكذلك فأن صفة الجاهلية التي اضفاها المؤرخون المسلمون الاوائل على هذه الحقبة لم يكن من شأنها اشاعة وتقريب هذا الادب الى الناس ولهذا فأن كان جزء من الشعر الجاهلي استطاع الافلات من قبضة التاريخ العربي الجائرة هذه فقد ظل النثر مندثرا ولم يجمع ولم يحقق ولم يدرس؟! مبعثرا في مقاطع وجمل واشارات وفقرات من خطب هنا وامثال وحكايات هناك . ولم تتوفر له اية فرصة للتوثيق والدراسة الاكاديمية على العكس من الشعر.
لم تكن عملية جمعه بالأمر الهين او السهل وليست هذه الا باقة مقتطفات منه فقط , احاول من خلاله مقاربة اولى , او هي في الاقل للفت النظر الى هذا المصدر الابداعي اللغوي المهم في تراثنا والى اهمية الالتفات اليه والاعتناء به.
تبدو ملامح هذا النثر موزعة على خطب ووصايا وامثال ومفاخرات وبعض من القص في مراحله الاولى .وهو يختلف جوهريا عن الشعر من حيث فلسفة النص اولا لان الشعر تطغى عليه الغنائية الذاتية , البطولة والانا بكل معانيها فنجد فيه تجلي الذات العربية يوم ذاك في كل مرافق الحياة ومعتركها , عنفا وبطولة ,جمالا وغناء حكمة واصالة ,همسا وتأملا موزعة على اغراض شعرية معروفة .
اما النثر , فعلى العكس من ذلك تماما تغيب فيه الروح الفردية الغنائية لتحل محلها الروح الاجتماعية والقبلية والحكمة ,فتعرف في النثر اكثر عن اسرار المجتمع الجاهلي وعن تفاصيل الحياة اليومية وصفات الرجولة والأنوثة والزيجات وظروفها وشروطها والعائلة والاحساب والانساب .
اذا كان الشعر الجاهلي مرآة الانا العربية الغنائية فأن النثر الجاهلي هو مرآة المجتمع العربي وحكمته ومن هنا تأتي اهمية تكامل الصورة بين الشعر والنثر الجاهلي لكي نفهم بشكل اكبر واوضح صورة المجتمع العربي في اهم مراحل تكوينه ونكشف اسرارا وخبايا وتجليات للغة العربية في اجمل مراحل سطوعها وانتشارها في الجزيرة والعالم القديم.
ان اسماء مثل «قس بن ساعدة الايادي» و»اكثم بن صيفي» و»امامة بنت الحارث» لترقى في النثر الى اسماء مثل»طرفة بن العبد» و»زهير بن ابي سلمى»و»الخنساء» في الشعر وكان احرى بمؤرخينا في الادب العربي عدم اهمال هذا النوع من الادب الرفيع الذي شكل غيابه نقصا اساسيا في ملامح تراثنا الاقدم والاغنى . بما لذلك من انعكاس على صورة الهوية العربية بأكملها .
يكشف لنا «النثر الجاهلي» ايضا وجها اخر من عبقرية اللغة العربية التي حفظنا عنها الشعر فقط في مرحلة نشوئها ولهذا ظلت الصورة عن نشوء وتطور اللغة العربية مرتبطة بالقصيدة ,والشعر الجاهلي. ولم تصلنا صورة النثر الا متأخرة بعد العصر الاموي وفي اوائل العصر العباسي مع عبد الله بن المقفع ومن ثم الجاحظ وابي حيان , ذلك لأننا لم نتوقف ولم نعتن بالنثر في الجاهلية وفي صدر الاسلام طغى «القرآن» ولغة القرآن الذي لم تصنفه العرب لا شعرا ولا نثرا ب «قران», على شعر ونثر مرحلة صدر الاسلام وهكذا تمتد المسافة بين اقدم النصوص الادبية العربية التي وصلتنا وهي الشعر(200سنة قبل الاسلام), اي منذ اوائل القرن الرابع الميلادي وحتى القرن التاسع الميلادي , بما لايقل عن اربعة قرون لم نعرف فيها شيئا عن النثر …
ان مثل هذه الفجوة الهائلة في تأريخ الادب العربي هي التي جعلت صورة ادبنا شعرية بشكل طاغ وغيبت رافدا مهما من روافد الابداع يحمل في طياته دلالات وخصوصيات ابداعية اجتماعية وفكرية ما زال غيابها ملمحا ناقصا في صورة مجتمعنا وثقافتنا وبالتالي هويتنا .
ان المادة الفكرية والفنية والتقنية وحتى اللغوية التي يحملها لنا النثر تختلف كليا عن ما يحمله الشعر . فعندما تقرأ اكثم بن صيفي :
«العقل بالتجارب .الصاحب مناسب. الصديق من صدق غيبه. الغريب من لم يكن له حبيب . رب بعيد اقرب من قريب . القريب من قرب نفعه. لو تكاشفتم ما تدافنتم …
تباعدوا في الديار وتقاربوا في المحبة . اي الرجال المهذب».
فأنت تجد في مثل هذا النص قطعة نادرة في جمال الصياغة والايجاز وعمق الدلالة وروعة الاداء , لا يوجد نظير لها في الشعر الذي يختلف في ادائه وفلسفته وخطابه . كما اننا نجد في الجملة الاخيرة تداخلا مع الشعر الجاهلي في نص ل»النابغة الذبياني»:
«ولست بمستبق اخا لا تلومه
على شعث اي الرجال المهذب «
كدليل على اهمية استخدام النثر وشيوعه في تلك الفترة .
تضم هذه المختارات فصوصا متناثرة لعقد عربي دفين نقدمه الى الملايين من قراء العربية في خطوة تأتي تأكيدا واثراء لمسيرة الثقافة العربية واستكمالا لتراثنا الابداعي .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة