مذكرات الرئيس جلال طالباني

رحلة ستين عاماً من التكية الى قصر السلام
( لقاء العمر)
تضع “الصباح الجديد” بين يدي القارئ الكريم ما يمكن أن يوصف بمذكرات للرئيس الراحل جلال طالباني، وتتميز المذكرات وهي عبارة عن بوحٍ متصل للأستاذ صلاح رشيد، بأنها صورة مفصلة بل تشريح سياسي لمرحلة حاسمة في تاريخ العراق تشمل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى يومنا هذا.
وعلى عكس ما عُرِف عن مام جلال من دبلوماسية ونزوع نحو التسويات التي عرف بها خلال ثماني سنوات من جلوسه على مقعد رئاسة الجمهورية العراقية، فأنه على العكس من كل ذلك يدلي بآراء في غالبيتها إشكالية، ونحن لا نتحدث عن المعلومات وسرد المعطيات التاريخية لعلاقته بصدام حسين وفرقه المختلفة للتفاوض مع الاكراد، بل أنه يتجاوز الى العلاقة مع إيران وسوريا والولايات المتحدة وبقية الأطراف التي كان لها تماس مع الملف العراقي في مراحله المختلفة، لكننا نتحدث عن الآراء المتعلقة بالشخصيات التي رافقته خلال مرحلة بناء الاتحاد الوطني الكردستاني وتشكيله للبؤرة السياسية في اعقاب عام (1975م) وهزيمة الثورة الكردية أثر اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام.
وتشكل المذكرات إنارة معمقة للطريقة التي اتبعها مام جلال في معالجته للتحديات والحلول التي خرج بها لتجاوزها، ولكنها لا تخلو أيضًا من اضاءة البعد الشخصي لمام جلال مما يساعد في نهاية المطاف الباحثين السياسيين والمواطنين على حد سواء العرب والاكراد على الاطلاع على أسرار لم يجرِ التطرق اليها في الماضي.
وغني عن القول أننا في “الصباح الجديد” نعدّ هذه المذكرات شهادة تاريخية من شأنها أن تستكمل المشهد السياسي العراقي الراهن، وهي تنطوي على مفاجآت وطرائف لا يمكن لأحد من خارج الدائرة الضيقة لمام جلال أن يطلع عليها.
“الصباح الجديد” سوف تنشر القسط الأساسي من هذه المذكرات، وهي لا تتحمل مسؤولية أي آراء قد تنطوي على بعض القسوة هنا وهناك، وستحاول تخفيفها بقدر الإمكان، ونأمل أن يتجاوب الساسة الكرام في كردستان وفي الفضاء العراقي من خلال هذه العملية ويسهموا بدورهم في إضاءة بقية المشهد.

الحلقة 21
إعداد: صلاح رشيد
ترجمة: شيرزاد شيخاني
عبدالناصر وسيطا بين الكرد و الحكومةالعراقية
*وما كانت مطالبكم من عبدالناصر؟
– كنا نريده حكما بيننا، قلت له بأننا نراك حكما مؤيدا لنا لأننا نعتبرك أخا كبيرا لنا ونحن مظلومون ولنا حق على الطرف الآخر، و وعدنا بلقاء، وهكذا إلتقانا في اليوم التالي، وتحدث هو في البداية ثم تحدثنا نحن، ولأن الأستاذ فؤاد عارف لم يكن تلفظه للكلمات العربية جيدة فلم يفهم ناصر منه جيدا، وخاصة أن عبدالناصر لم يكن وحده بل معه مساعده برئاسة الجمهورية زكريا محيي الدين ورئيس الوزراء علي صبري، ولذلك بادرت أنا بالكلام وتحدثت عن المسألة الكردية وإتفاقنا مع البعثيين. فسألني عن صيغة وشكل الحكم الذاتي الذي نطالب به وقال “هل سيشمل الجيش والعلاقات الخارجية”؟ أجبته “لا..فرئاسة الدولة والمالية العامة والجيش والعلاقات الخارجية والنقد وغيرها ستكون من الصلاحيات الحصرية لسلطة بغداد، ولكننا سندير شؤوننا الداخلية فقط. فقال “يعني مثل تجربة يوغسلافيا قلت “نعم، وحتى لو كان أقل من ذلك فنحن راضون به”.
وإستطردت “هناك ثلاثة تجارب أمامنا من دول العالم، فإختاروا الصيغة التي ترونها مناسبا لنا ونحن سنقبل بها. الأولى، تجربة يوغسلافيا، والثانية تجربة الهند، أو تجربة ليبيا. فليبيا كانت في عهد السنوسي تتألف من ثلاث ولايات هي، ولاية برقة وبنغازي وطرابلس، ولذلك خيرتهم بين أي من الصيغ سيتفقون معنا حولها، فهذه ثلاث صيغ أمامكم، عربية وآسيوية وإشتراكية التي هي صديقة لكم”.
لمحت في وجه عبدالناصر إرتياحا وقبولا، ولكنه لزم الصمت، ثم قال “سأدرس الموضوع”. وسألني “هل تحمون الشيوعيين؟، وكذلك سألنا عن تصريحات عصمت شريف وانلي التي كانت تصريحات غير موزونة. فقلت له “لسنا مسؤولين عن تصريحاته، فهو يطلق الكلام على عواهنه، لكن ناصر قال “هذا الكلام سيضركم كثيرا تصريحاته كانت سيئة”، فقلت “ما قاله يعبر عن رأيه الشخصي وليس رأينا”.
في ذلك اللقاء تركت لدى عبدالناصر إنطباعا جيدا، وكشف ذلك بعد لقائنا، حين قال “لقد ترك عندي إنطباعا جيدا، ومفهومه للحكم الذاتي والعلاقة العربية الكردية مقبول عندي”، وبالطبع تحدثت بإيجابية عن العلاقة التاريخية الكردية والعربية وقلت “لنا أمل بأن تكون أنت صلاح الدين الأيوبي لهذا الزمن، فالكرد والعرب كانوا دوما أخوة متراصين، وأن الإعتراف بالحكم الذاتي سيقوي هذه العلاقة، وليس نزعة الإنفصال والإبتعاد عن بعض، فنزعة الوحدة هي التي ستقوينا، وعلى العكس من ذلك إن التنكر لنا وهضم حقوقنا لن يؤدي سوى الى الإنفصال والابتعاد، حينها فإن الكرد سيعتبرون العرب مجرد محتلين وأعداء يسعون للتحرر من قبضتهم”.
وكان عبدالناصر مرتاحا لكل ماقلت، ولتدعيم موقفي هذا لدي شاهد وهو الدكتور جمال الأتاسي الذي تحدث في مقدمته لكتاب منذر الموصلي حين قال “بعد لقائهما إلتقيت بعبدالناصر و وجدته مرتاحا كثيرا مما تحدث به جلال طالباني، لان ما قاله جلال يتوافق مع رؤيته الإستراتيجية وقال لنا “ما قاله هذا الشاب الكردي يتوافق تماما مع مشروعنا الإستراتيجي القومي”. كنت شابا في تلك الفترة وليس كهلا كما تراني اليوم.
ونحن من جهتنا لمسنا منه الرضا والقبول ولكننا لم نحصل منه على جواب مباشر، فقال بأنهم سيدرسون المسائل، وقال لي “لا تتعجب إذا قلت لك بأننا في الحركة القومية العربية نتحدث عن الإشتراكية والبيان القومي، ولكننا لحد الآن لم نضع أفكارنا على الورق، إذا أنت سألت أي شخص ماركسي عن موقفه من المسألة القومية، سيأتيك بكتب لينين أو ستالين ويقول هكذا قالوا، ولكننا ليست لدينا أشياء جاهزة، وعليه يجب أن ندرس الموضوع، وحين ترجعوا من الجزائر سأكون قد درست الموضوع ونتحدث بشأن كل المسائل”. وهكذا ودعنا بكل حرارة.
وفي الظهر أقام لنا وليمة غداء في نادي الجزيرة وجاء بنفسه وجلس مقابل علي صالح السعدي و وزير الدفاع صالح مهدي عماش، وجاءوا بالفريك باللحم، سألت أمين الهويدي الذي كان سفيرا حينذاك ما إذا كان هذا فريكا أو فريشا لأن في كردستان شيئا يشبهه ونسميه “قرة خرمان” أي الخرمان الفريش، ويبدو أن عبدالناصر سمع سؤالي فسألني “لماذا تسأل”؟ فقلت “إن فريك تعني باللغة الكردية الثمار قبل نضوجها”.
فقال “يا جلال يبدو أن صلاح الدين قد جاء به الى مصر حين أتى الى هنا “وأضاف “خذوه الى المواقع الأثرية ليشاهد آثار أجداده”، قلت “ان شاء الله نكون قد تركنا لديكم أثرا طيبا. فقال “نعم تركتم عندنا آثرا جيدا”.

السفر الى الجزائر
* حدثنا عن سفرك الى الجزائر؟
– بعد القاهرة سافرنا الى الجزائر وإلتقينا هناك بالرئيس أحمد بن بيلا وأظن أنه كان يوم 24 أو 25 نيسان 1963 وأتذكر أنه صادف أول أيام عيد الفطر المبارك وأخذونا الى مدينة إسمها بليدة لأداء صلاة العيد ثم عدنا للقاء بن بيلا الذي وجدته شخصا متواضعا جدا وشبهته بالبيشمركة من حيث بساطته. وحين جلسنا سأل عني وقال “من هذا؟، فقالوا هو فلان، وحين بدأت أتحدث اليه حول المسألة الكردية وجدته أكثر تفهما من عبدالناصر وأسرع منه في الرد، فلم يرجيء البت بالموضوع بل قال “أيها الأصدقاء، الكرد شعب مسلم وهم أصدقاؤنا منذ زمن بعيد عاشوا معنا بوئام، وعليه أرى بأنه من الضروري أن تسرعوا بإعطائهم حقوقهم في الحكم الذاتي، لأنه بدون ذلك فإن القتال سيستمر عندها ستتدخل إيران وغيرها من الدول حينها لن يرضى الكرد بأقل من الإستقلال التام، فنحن في الجزائر كنا مثلهم راضين بالحكم الذاتي ولكن فرنسا إمتنعت عن ذلك بعد الحرب، ولذلك لم نقبل بغير الإستقلال”. وأضاف “برأيي كلما أسرعتم بإعطائهم الحكم الذاتي كلما كان ذلك أفضل”. كان كلامه صريحا جدا أرضانا وكنت شاكرا له موقفه وحديثه الإيجابي عن المسألة الكردية.

* وأين ذهبتم بعد الجزائر؟
– بعد إتمام سفرنا الى الجزائر عدنا مرة أخرى الى القاهرة وإلتقينا عبدالناصر وقال لنا “لقد درست مطالبكم ورأيي هو كالتالي:
أولا: برأيي يجب عليكم أن تحافظوا على الأخوة العربية الكردية مهما كان الثمن وكذلك نضالكم المشترك والحرص التام على وحدة الأراضي العراقية.
ثانيا: يجب على الحكومة العراقية أن تمنحكم الحكم الذاتي بالمفهوم الذي شرحته أنت لي.
ثالثا: يجب عليكم جميعا أن تحلوا المسائل بينكم بالحوار السلمي والسياسي، لا أن تفكروا بالثورة أنتم، ولا هم يفكروا بالقتال والتحرش بكم، فكل من يبادر بالحرب والقتال سيفقد دعم الجمهورية العربية المتحدة، يجب أن تعلموا ذلك جيدا أنتم والحكومة العراقية.
رابعا: نصيحتي لكم كأخ وليس كرئيس للجمهورية العربية هي أن تحترسوا كثيرا من شاه إيران، فهو عدو للكرد، لأن هناك جزء من الشعب الكردي تحت سلطته فسيسعى لإستخدامهم ضدكم، قد يحاول أن يعقد العلاقات معكم وأن يقدم لكم بعض الشيء مقابل أن يؤلبكم على العرب حتى يحقق أهدافه، فإحترسوا منه لأن مثل هذه العلاقات لن تخدمكم.
فأجبته “ماهو واضح عندنا الآن هو أن الحكومة العراقية تتعاون فعلا مع كل من إيران وتركيا ضدنا، وظهرت حقيقة مغازلتها لهذين النظامين وإتفاقها معهما لمحاصرتنا. فنحن ليست لدينا أية علاقة مع إيران فلم تتجاوز تلك العلاقات إطار التفاوض الذي لم نجن منه شيئا، وسنمتثل لنصائحكم وسنوصلها الى إخواننا بالقيادة”.

*وهل تطرقتم الى ما سيكون عليه وضع الكرد إذا حصلت الوحدة بين القاهرة و بغداد و دمشق؟
– نعم تحدثنا عن ذلك في إجتماع موسع، وسألناهم إذا تحققت الوحدة بين العراق ومصروسورية فماذا سيكون مصيرنا نحن الكرد؟ وقلت ضاحكا “فخامة الرئيس هؤلاء الأخوة هم عرب ونحن كرد، هم جزء من الأمة العربية ونحن جزء من الأمة الكردية، فإذا وصلتم الى تحقيق هذا الحلم القومي فإننا سنكون سعداء، وأي ضمانات يحصل عليها الأخوة العرب العراقيون، لا نطالب نحن إلا بنصفها”، فضحك عبدالناصر كثيرا.

* وماذا كانت إنعكاسات ذلك السفر على مفاوضات الحكومة و البارتي؟
– بعد عودتنا من مصر الى بغداد إستعجلت الوفد الحكومي وقلت لهم بأنه يجب علي العودة مسرعا الى إخواني بالقيادة، فعقدنا إجتماعا بحضوري وصالحى اليوسفي وإنضم إلينا صديقان قديمان هما العقيد مصطفى عزيز وحمة سعيد الخفاف الذي كان مثقفا كرديا محترما. وفي الإجتماع الذي عقد بمكتب صالح مهدي عماش وحضره بابا علي وفؤاد عارف وعدد من وزراء البعث، قال عماش “نحن نقبل بمطالبكم للحكم الذاتي، ولكننا نحتاج الى فرصة لو سمحتم لنا بذلك”. وقال موجها كلامه لي “أنت إكتب صيغة للحكم الذاتي وأنا سأوقع عليها وكذلك مجلس قيادة الثورة ولكننا لن نعلنها الا بعد ستة أشهر، المطلوب أن تنتظرونا لأربعة أشهر فقط، ورأيت أنه من المناسب أن نقبل منهم ذلك”، لأنه:
أولا: سيبقى ذلك كوثيقة تاريخية مكتوبة سنحصل عليها منهم.
ثانيا: سيكون الحكم الذاتي مقبولا منهم بتوقيع جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة.
ولكني قلت “يجب أن نتشاور مع الملا مصطفى فمن دون موافقته لا أستطيع توقيع أية وثيقة”، وحين عدت من الإجتماع وصلني خبر من الملا مصطفى يطلب مني إستعجال إعلان البيان، وإلا على العودة مسرعا “وبعدها زرت البارزاني وحدثته بكل الأخبار وماحصل، وهو لم يغضب كما توقعت، بل حين سردت له ماحدث في الجزائر وجدته سعيدا بذلك، ولم يكن بهذا القدر من الغضب لسفري كما رواه آدم شميدت.

* هل تقدمت الحكومة بأية خطوة بإتجاه تحقيق مصلحة الكرد؟
– عندما عدت الى الملا مصطفى، لم تعلن الحكومة أي شيء، فساد البرود بالعلاقة بيننا وبينهم، وكان المكتب السياسي قد أصدر توجيهات شكك فيها بنوايا الحكومة، وعلمت الحكومة بذلك، لذا سارعت بإيفاد طاهر يحيى على وجه السرعة الى الملا مصطفى وجرى لقاء بينهما في كاني ماران، وكانت نتيجة المحادثات هي نفسها حين قالوا سنرجع نحن وسنبعث اليمكم وفدا آخر.
وفعلا أرسل النظام وفدا شعبيا ضم وجهاء عراقيين وكرد يرافقهم زيد أحمد عثمان، وجاءوا الى رانية وجوار قرنة وإلتقوا بالملا مصطفى. وجرى الحديث بينهم، قدم البارزاني خلال اللقاء بعض المطالب الجيدة، مثل الحكم الفدرالي والذي تم إعداده من قبل بعض الأشخاص المقربين منه مثلي أنا والعقيد كافي وعمر دبابة. وحين تقدم البارزاني بهذه المطالب إستغرب معظم أعضاء الوفد لأن ذلك كان أكثر من الحكم الذاتي، فالموضوع تشعب الى الحديث عن الجيش والعمل بداخله. عاد هؤلاء وطلبوا منا إرسال وفد كردي الى بغداد. ولهذا الغرض عقدنا إجتماعا موسعا في كويسنجق يوم 18 مارس وضم شخصيات عشائرية وأعضاء الحزب ومسؤولي البيشمركة، وإقترح الملا مصطفى في الإجتماع أن يتألف الوفد برئاستي، وهكذا أصبحت مشرفا على الإجتماع. وقرر المجتمعون تشكيل وفد للتفاوض مع الحكومة وتدخل البارزاني مرة أخرى وقال “أرى أن يترأس الوفد جلال” كما قرر المجتمعون إختيار 14 عضوا سبعة منهم كوفد أصيل، وسبعة آخرون كمستشارين، وضم الوفد كل من، أنا وصالح اليوسفي ومصطفى عزيز، و من الشخصيات الكردية كلا من كاكة حسين خانقاه ومحمد سعيد خفاف و رشيد عارف و مسعود محمد و بابكر محمود حاجي اغا، ويدالله وحبيب محمد كريم وغيرهم(4). وكما تقرر أصبحت رئيسا للوفد، كان الوقت في بدايات الربيع حيث ذهبت مع الوفد بعد إنتهاء أعياد نوروز الى بغداد. وكان إجتماع آخر قد عقد في كويسنجق بذلك الوقت للشيوعيين، فأرسل الأستاذ عزيز محمد الذي كان مسؤول الشيوعيين بخبر يريد زيارتي، فأجبته بأنه لايليق أن يأتيني هو إنما سأذهب أنا اليه. وكان الشيوعيون يعيشون في تلك الفترة بنكبة كان يفترض أن نراعيهم ونحتضنهم وندعمهم، وكنت في ذلك على خلاف مع المكتب السياسي ومع الملا مصطفى حول ذلك. وحين لقيته سر كثيرا فقلت له “كاك عزيز إعتبرني صديقا لكم فكل ما أستطيع فعله لمصلحتكم لن أتوانى عنه فأنا بخدمتكم، إعتبروني أقرب صديق لكم وهذا سيكون موقفي الى حين تنهضون من جديد وتتغير أوضاعكم الحالية”، فضحك وقال “قل غير ذلك يا رجل”!، وتحدث عزيز محمد عن هذا الموقف وأنا شاكر له ذلك.

سفرة اخرى الى بغداد
* وهل حققتم شيئا في سفركم الثاني الى بغداد؟
– هذه المرة شعرنا بفتور حماسهم، فعلى سبيل المثال أنزلونا بفندق سمير أميس بدلا من فندق بغداد الراقي، كما أنهم واجهونا بوفد شعبي أيضا مكون من محمد رضا الشبيبي وفائق السامرائي وحسين جميل وعبدالعزيز الدوري وفيصل حبيب الخيزران وآخرين. وحين جلسنا معا سألتهم “من أنتم، وهل أنتم وفد رسمي وماهي صلاحياتكم وبأي صفة تفاوضونا، وإذا وصلنا الى حلول ماذا سيحصل عندها، فهل ستكونون ملتزمين بأي إتفاق نتوصل إليه”؟ فردوا “كلا، ليست لدينا هذه السلطة، فنحن سنعد تقريرا بما نتوصل اليه ثم نرفعه للحكومة”. قلنا لهم “إذن فإن المسألة ستطول، لأننا يجب علينا أن نمهد للمفاوضات ثم نتباحث مع الحكومة وهي بدورها ستحيل القضية الى مجلس قيادة الثورة لتقرر”؟
ولاحظنا بأنهم بدؤا ينزلون سقف مطالبنا، فقلنا لهم “رغم ذلك قررنا أن لا نتراجع ونستمر بالتفاوض. ثم تحدثنا عن الحكم الذاتي ولكن حين وصلنا الى تحديد حدود منطقة الحكم الذاتي قدموا الأستاذ فائق السامرائي كرئيس لفريقهم التفاوضي، وقلنا لهم “نحن نقبل به حكما بيننا وبينكم”، وأراد السامرائي أن يتحدث فقاطعته وقلت “أنت أبديت رأيك فلا داعي لتشرحه لنا مجددا”. فقد كان فؤاد الركابي سلمني مذكرة بإسمه ويإسم فائق السامرائي وعدد من الشخصيات القومية أثناء ما كنا في القاهرة وقدموها الى عبدالناصر. فاخرجت المذكرة وقلت “هذه هي المذكرة موقعة من قبل الأستاذ السامرائي وفيها يعترف بأن حدود كردستان تبدأ من جبل حمرين نزولا الى مندلي”. فقالوا “هذا غير مقبول”، فقلت كيف هذا ألم تقولوا بأننا نقبل بالسامرائي حكما، ها هو توقيعه”؟ فقالوا “دع يقول ما يشاء”، قلت “هذه وثيقة موقعة رفع الى الرئيس عبدالناصر وليس هزارا أو مزحة! وأنا عن نفسي أبلغت عبدالناصر بالأمر وقلت له بأننا نطالب بحقوق أٌقرها القوميون العرب قبل تسلمهم للسلطة، والان وقد وصلوها يوشك أن يتراجعوا عنها”. لقد أحرجتهم كثيرا وفي النهاية لا هم قبلوا بطروحات فائق السامرائي ولا نحن قبلنا طروحاتهم.
بدا واضحا أنهم يماطلون ويريدون تأخير القضية باللف والدوران، وفي يوم دعونا الى علي صالح السعدي، وبرغم أن هذا أصبح صديقا لنا وتراجع عن الكثير من مواقفه السابقة وكان شخصيا يعتبر نفسه صديقا لي، ولكن حين ذهبت اليه بمكتبه في وزارة الداخلية لم يقم للترحيب بنا وكان هناك صالح مهدي عماش. ولأنه لم يقم للترحيب فلم أصافحه بل ذهبت للجلوس في ركن وهكذا فعل كثيرون من أعضاء الوفد ما عدا رشيد عارف وقلة منهم صافحوه. فجلست واضعا رجلا على رجل وبدأ السعدي يتحدث بغرور وتعال قائلا “كم مرة قلنا لكم بأننا أصبحنا نعرف صديقنا من عدونا، وكررنا عليكم بأن الدول الشيوعية عدوة لنا”. قلت “نحن لدينا مطالب بالحكم الذاتي، وبيننا إتفاق موقع بهذا الشأن، وكنت أنت بالذات قد إتفقت مع صالح اليوسفي، وكان طاهر يحيى قد توصل لإتفاق مع الأستاذ ابراهيم أحمد.نحن منهمكون بالتوصل الى حل، وها أنت تريد أن تغير الموضوع وتوجهه الى مسار آخر لكي تشغلنا”. فقال “لا..هذه مسألة أساسية لنا، فإذا لم تحددوا موقفكم فلن نقدم لكم شيئا”. فقلت “لا..ليست هذه المسألة الأساسية، هذا أمر ثانوي تريدون أن تشغلونا به”. وهكذا تطور الأمر الى المزيد من المناقشات العنيفة، فقلت “إذن أنتم لا تريدون أن تحلوا المسألة الكردية بطريقة سلمية ولاتريدون حلولا سياسية، يبدو أن نواياكم سيئة وتريدون القتال، ولكن إعلموا بأنكم مخطئون، فقضايا الشعوب لاتحل بالقتال، والشعب الكردي ليس هينا حتى تجعلوه لقمة سائغة، نحن لدينا جبال ووديان، والتاريخ أثبت مرارا بأننا لن نباد بالقوة العسكرية”.
أراد السعدي أن يتكلم، لكن صالح مهدي عماش قاطعه وقال كلاما طيبا “كاكة جلال ليست لدينا مثل هذه النوايا، نحن حاولنا القضاء على شخص واحد هو عبدالكريم قاسم وأصبح ذلك نقطة سوداء بجبيننا ويصفنا الشعب بالقتلة، فماذا سيقولون لو أردنا قتل الشعب الكردي، نحن لا نقتل المباديء ولا نراه من صلب مهامنا كما أنه لا يتفق مع مبادئنا، نحن نريد فعلا معالجة القضايا وقد وعدناكم بذلك، هناك إتفاق بيننا وبينكم سنسعى الى تنفيذه والإلتزام به”. وإلتفت نحوي وقال “ألا تتذكر حين طلبت منك ذات يوم أن تعد لنا صيغة للحكم الذاتي نوقعها لك، وطلبت منك مهلة ستة أشهر حتى نهيء أنفسنا، المسألة تتعلق بالوقت”.
هذا الكلام غير أجواء المحادثات وقالوا “حسنا سنشكل غدا وفدا آخر لأنه يبدو بأنكم لن تتوصلوا الى نتيجة مع علي صالح السعدي”، وهكذا شكلوا وفدا برئاسة الأستاذ حازم جواد وكيل وزير الداخلية.

*وهل فاد بقاؤكم في بغداد بشيء؟
– قليلا، إلتقينا برئيس الوفد وقال لنا “والله يا إخوان مازلت على رأيي السابق، فقد قلت لكم بأنني مع جمهورية كردستان الإشتراكية، أنا ليست لي أية مشكلة مع الحكم الذاتي، المشكلة هي كيف ومتى يتم تطبيق ذلك؟ وإلا فأنا كما قلت لكم أريد أن أرى جمهورية كردستان الإشتراكية، ولكن كما ترون هذه هي دولتنا وحزبنا، مجلس قيادة الثورة غير راضين عن مضمون الحكم الذاتي الذي قدمه الملا مصطفى، نحن نريد مزيدا من الوقت لتطبيقه”. قلت له “حسنا قولوا لنا كيف نعالج المسألة. تقولون أعطونا ستة أشهر، إذن قولوا لنا ماذا تقبلون وماذا ترفضون من الصيغة التي قدمها لكم الملا مصطفى حتى نعرف ما علينا أن نفعله “فرد حسنا هذا كلام معقول، وهكذا شكلوا وفدا لإعداد صيغة للإتفاق ثم الرد علينا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة