قناعات مو دقلات

لا يحتاج المرء لجهود كبيرة كي يكتشف حقيقة “التحولات” والانتقالات المفاجئة والسريعة في مواقف الأطراف والكتل والشخصيات المتنفذة من بعضها البعض الآخر. فمن الاتهامات المتبادلة بالفساد والخيانة وغير ذلك من النعوت المتخصصة بشيطنة الآخر، الى كيل كل أنواع المديح والتبجيل وما يتميز به موروثنا وفلكلورنا الشعبي من مآثر في هذا المجال. مثل هذه القفزات لا يمكن التعويل عليها في وضع أسس راسخة لعلاقات وطنية وسياسية تنهض بالبلد وتنتشله من محنته الراهنة.
وما جرى للعلاقة بين بغداد وأربيل في الأيام الأخيرة مثالاً واضحاً على ذلك. عندما زار السيد مسعود البرزاني بغداد وجولاته التي شملت كل مراكز القرار التشريعي والتنفيذي والسياسي والاجتماعي ما خلا طبعاً رئيس الجمهورية (برهم صالح) والذي ترك العاصمة شاداً الرحال الى روما، لمقتضيات الزعل الحاصل بين الطرفين، عندما حرم ترشح الدكتور برهم صالح لموقع رئاسة الجمهورية، مرشح السيد مسعود اليها السيد فؤاد حسين والذي تمت ترضيته لاحقاً بوزارة المالية ومنصب نائب رئيس الوزراء وفقاً لفقه (عدد النقاط في فك الاشتباك) والمعمول به من قبل الآباء المؤسسين لما بعد لحظة الفتح الديمقراطي المبين، حيث حظيت تلك اللقاءات باهتمام وتقدير كبيرين من قبل جميع الاطراف التي شملتها تلك الزيارات.
لسنا بالضد من مثل هذه اللقاءات، بل هي وكما تطرقنا مرارا تعد السبيل المجرب لحلحلة كل عقد العلاقة لا بين بغداد واربيل وحسب، بل بين جميع الاطراف والقوى والمصالح المختلفة، لكننا ننتظر ان تستند مثل هذه النشاطات الى اساس من القناعات الراسخة بأهمية مد الجسور بين ممثلي جميع العراقيين من دون تمييز على اساس الرطانة والخرقة والهلوسات. نعم قناعات مو دقلات تعيد تقاسم الأسلاب وبما يضمن امن واستقرار اقطاعياتهم السياسية والمالية والاجتماعية، دقلات ألحقت أبلغ الضرر لا بالمصالح الحيوية للعراقيين ككل، بل بمصالح وامن واستقرار ما يطلقون عليه اليوم بـ (المكونات).
إن استمرار اللهاث خلف هذه المفاهيم الضيقة في العمل السياسي، أوصل البلد الى ماهو عليه اليوم من فشل وتشرذم ومحن على شتى الاصعدة. كنا وما زلنا ننتظر ظهور مواقف مسؤولة وشجاعة تضع نصب عينيها المصالح العليا لشعوب هذا الوطن القديم، عبر التخفف من موروثات الاستبداد والفردية المهيمنة في المشهد السياسي والحزبي الممتد من الفاو لزاخو، والتي تقف بالمرصاد لكل مساعي جادة للتغير والاصلاح، وبالتالي منح الاجيال الحالية والمقبلة فرصة التعرف على ما اقترف من اخطاء ومواقف وقرارات، كي تتمكن من صياغة سياسات ومواقف تنتشل مشحوفنا المشترك من محنته الحالية.
ان إعادة ترميم اللعبة السياسية وصيانة مقاييسها ومعاييرها والتي تعرفنا عليها بعد ان استأصل لنا المشرط الخارجي “جمهورية الخوف” يعني انهم مصرون جميعاً على استنساخ التجربة اللبنانية بكل ما فيها من بؤس وانحطاط وانسداد للآفاق.
ان التناقض الاساس الذي يقف خلف كل ما نواجهه من اخفاقات وانسداد، يكمن في طبيعة النظام الديمقراطي الذي فرضته الاقدار علينا بعد زوال النظام المباد، وانعدام ذلك (الديمقراطية) في الاحزاب والكتل والجماعات التي تلقفت مقاليد امور البلد بعد الفتح الديمقراطي المبين. لذلك لن يشذ التقارب الجديد بين بغداد واربيل عما جرى للتقاربات والتباعدات السابقة، حيث الدافع الاساسي لها قضم أكبر ما يمكن من الوليمة لصالح القبيلة والاسرة والاشخاص، بعيدا عن المصالح العليا للوطن ومستقبل شعوبه وأجياله المقبلة…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة