يرجّح بعض المؤرخين أن أسباب تفشي ظاهرة البخل في المجتمع العربي بدل الكرم والجود هي التيدفعت طيب الذكر الجاحظ الى تأليف أشهر كتب التاريخ وأكثرها ظرافة وفكاهة ومتعة ذلك هو كتاب(البخلاء)، الذي يعدّ أهم وثيقة واقعية تراثية جسّدت صورة المجتمع في تلك الحقبة من تاريخ الأمة سواءعلى الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، بأسلوب فني وأدبي جميل، مستعيناً بالأجناس الأدبيةالمختلفة ومنها توظيف الحكاية والشعر والحديث والطرفة بأسلوب مشوّق وسلس ومهضوم، إضافة الىتوثيقه الشخصيات والعادات والمدن والأطعمة والأدوات وغيرها.. ويبدو أن ما شجع (الجاحظ ) على تأليفكتابه هذا هو استظراف وميول المجتمع للهجاء والتندر به واتخاذه سلاحاً للهجوم على الخصوم والدفاععن الذات، وفنّاً للفكاهة والإضحاك .
لا أدري كم من الكتب كان سيؤلفها الجاحظ لو قدّر له أن يعيش بيننا ويتمتع بمشاهدة الحلم الديمقراطيوالربيعي العربي (سكوب ملون) وكيف يتحقق .. بنجاح ساحق!
وكم من الطرائف اليومية النادرة والجاهزة التي كان يمكن أن يوظفها في كتبه وهو يتعايش مع المشهدالسياسي.. والاجتماعي ،
وكم من الشخصيات التي طفت على ساحته الفوضوية كانت ستدخل التاريخ عبر حكايات “الجاحظ “الظريفة عن جدارة واستحقاق انتخابي و(انتحابي) متفوقة على (الحطيئة ) و(أبو دلامة) و (أبو القاسمالطنبوري )..!
يصف المعنيون (البخلاء) بأنهم شريحة تعاني أمراضاً وعقداً عدة، منها اجتماعية ونفسية واقتصادية،والصورة الظاهرة للعيان هي حب هؤلاء للمال والرغبة المفرطة في جمعه، والاحتفاظ به وعدم إنفاقه أوالتصرف به لحين لقائهم عزرائيل..!
ومن أشهر قادة البخل رجل من بني هلال يدعى (مادر) كان مفرطاً في البخل إلى حد بعيد .. فقد حُكي عنهأنه سقى إبلاً له، فبقي في أسفل البئر ماء قليل، فمدره أي (ملأه) بالطين والحجر حتى لا ينتفع بمائه أحدمن بعده… وراح يضرب به المثل .. أبخل من مادر !!
ومن قصص البخل الطريفة التي أتذكرها دائما .. كلما التقيت أحداً منهم !
تقول الطرفة … (كان البخيل وولده يمشيان في جنازة .. فسمع الولد زوجة الميت تقول: آه يا زوجي ..سيذهبون بك إلى بيت ليس فيه ماء ولا طعام ولا فراش ولا كساء …فقال الولد لأبيه البخيل : هل سيذهبونبه إلى بيتنا ؟).
لا يرتبط (البخل) بحب المال واكتنازه وعدم الجود به فقط، وإنما يتعلق أيضاً بجميع السلوكيات والفعالياتالتي يقوم بها الأفراد في المجتمع، فهناك من يبخل عليك بالمساعدة وهو قادر عليها، وهناك من يبخل عليكبالعلاج وأنت تعاني من الألم والمرض ، وهناك من يبخل عليك بالثناء والشكر على عمل أنجزته له،وهناك من يبخل عليك بالتهنئة لتكريمك أو لفوزك بجائزة ما، وهناك من يبخل عليك بالحب وأنت تغمره به،ولعل أقسى أنواع البخل هو.. عدم تفقد الراعي لرعيته ، و”البرلماني “الذي لا يعرف ما في قدور فقراءمدينته، والمسؤول الأمني الذي ينام قرير العين وجاره مهدد بالكاتم ، ووزير التموينية الذي يغط في نومهشبعاناً، وحصة المواطن لا تُشبع جوع أطفاله..!
– ضوء
البخيل من يتخلى عن وطنيته من أجل حفنة دراهم ! .