د.جاسم حسين الخالدي
اهداءُ المكتباتِ عادةٌ حسنةٌ من أصحابها إلى المؤسساتِ العلميِّة والأكاديميِّة في كلِّ عصرٍ وزمنٍ، أو حتى بيعها أمرٌ محمودٌ، ولاسيما بعد أن تنتفي حاجتُها للمبدعِ نفسِه، اذ يستبيحُ جسدَه المرضُ والاعياءُ، أو يغيبه الموتُ، أو حين يغادر بلده، وتُصبحُ مكتبتُه عبئاً عليه، لأنَّه كان يكرسُ جلَّ وقتِه وجهدِه للحفاظ عليها، وادامتها، من حين الى حين، لكن حين يشدُّ الرحالَ إلى بلاد الغربةِ، تُصبحُ الحاجةُ الى ايجاد سبيلٍ لأنْ تبقى مكتبته تتنفسُ الهواء، والا تعاني الوحدة، أمر ضرورياً بالنسبة له، حتى يكون خيارُ اهداءِ مكتبته إلى جهةٍ أكاديمية خياراً لابدَّ منه، وهو أحلى الخيارات بالنسبة للمبدع الذي لا يريد أن يدع كتبَه تتشتتُ بين الأماكن، وتضيع هوية مكتبتها، من بعده ، لكن اهدائها إلى جهةٍ علميةٍ اكاديميةٍ تحفظ هويتها ويبقى اسمه صاحبها خالداً ما بقيت المؤسسة ومكتبتها.
أسوقُ هذه المقدمة لأتحدث عن مبادرة أ.د.مالك المطلبي وأ.د.حاتم الصكر في اهداء كتبهما إلى ( كلية التربية / جامعة واسط) . وإذا كان المطلبي قد خصها بما يقرب من ألف كتاب، بعد أن أهدى قسماً آخر إلى جهات أخرى، فإن الصَّكرّ قد أهدى مكتبته كلَّها بطيبِ خاطرٍ، ايماناً منه بالدورِ المعرفيِّ والثقافيِّ الذي تطّلعُ به كليةُ التربية في جامعة واسط، إذ نجحت أن تلفت الانتباه في الخمسِ السنواتِ الأخيرة.
ومكتبةُ الصَّكرِ مكتبةٌ متكاملةٌ تضمُ أمهات الكتبِ في اللغةِ والأدبِ والنقدِ والبلاغةِ والفلسفةِ والتاريخِ. وأنَّ أيَّة قراءةٍ متانيةٍ لها تكشفُ عن العمقِ المعرفيِّ الذي ينماز به، المصادر الثرة التي نهلّ منه وتعددها، فلم يكن النقدُ هو الغالب عليها، فثمة عناية خاصة بالأدب العربي القديم ونقده، فتقف دواوين الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين إلى جانب شعراء الحداثة، وتجد كتب النقد القديم إلى جانب كتب النقد الحديث، كما لا تعدم منه عناية قصوى بالكتب الفلسفية والنفسية والتأريخية.
كلُّ كتابٍ -عند الصكر- له حكاية؛ فهو حين يتصفحُ هذا الكتاب أو ذاك يعيدك الى أيَّام اقتنائِه وقراءته، فضلاً عن ملاحظاته التي دوَّنَ بعضها على متنِه، ورؤيته النقدية له، بشكلٍ عام، وأكثر من ذلك فأنَّه يقترحُ عليك قراءته، لأنَّه يعتقد بأهميته للناقد الأدبي الذي يريد أن يقف على أرضٍ صلدةٍ في أرض النقد الواسعة، ويرفعُ من منسوبِ معرفتِه وثقافتِه النقديّةِ.
ويبدو أن الصكر كان يعي أهمية تعدد المنازع المعرفية للناقد، ومنها المعرفة الفلسفيّة؛ اذ إنَّ كثيراً من الانتقاءات التي توجه للنقديّة العربيّة ومنها العراقيّة، بأنَّها تعملُ بمعزلٍ عن الفلسفةِ، أو أنَّها بلا حاضنة فلسفيّة، تدعم مقولاتها، وتوكد صحتها، فانّه، ومن خلالِ ما ضمّته مكتبتُه من كتبٍ فلسفيةٍ او اهتمامات بعلومٍ أخرى كعلمِ النَّفس وعلم الاجتماع، يؤكد حاجة النقد العربيّ الى الانفتاح على الفلسفةِ بمختلفِ اتجاهاتها. ومن ثم يغدو لقراءاته الفلسفية تأثيرا كبيراً وحاسماً في عموم منجزه النقديِّ، وقد لا يبدو الصكر وحيداً في ذلك، إذ يشاطره آخرون من أمثال الناقد ياسين النصير، والناقد سعيد الغانمي، ود. حسن ناظم، ود. ناظم عودة، وغيرهم.
وبعدُ، فإنّ قلقَ المبدعِ على مكتبته، يدعوه إلى البحثِ عن مكانٍ آمنٍ لها، وألّا يتركها تحت سلطة آخر لا يقدرُ أهمتها، وما تعني لصاحبها.
قد تبدو لحظاتُ إخلاءِ الكتبِ من رفوفِ المكتبةِ من أصعبِ اللحظاتِ، لا بالنسبةِ للمبدعِ؛ بل لمن يشهدُ ذلك، لكن خطوة إهداء المبدعين لمكتباتهم تضمنُ الحياة الدائمة لها؛ اذ تولي الجامعات والمؤسسات التعليميّة، عناية خاصة بالكتابِ الورقيِّ؛ لأنَّه على الرغم من التطورِ الهائلِ الذي بلغه عالمُ التقنياتِ وشيوع الكتبِ الإلكترونية، فان نكهةَ الكتابِ الورقيِّ هي الأكثرُ استقطاباً لأُنوف القراءِ قبلَ عقولِهم.