جلال حسن
قاعة، وعازف ناي ينفخ في أصابع القصب
ثمة من يصقل الحكاية، ويعيدها في صمت الأيائل
كصياد رؤوف، لا صوت يحاكي الناي غير لحن أتعبته
المسافات بضجيج الغرباء، وأنت كما الذكرى
مثل قربة آهات تذوب في كأس على مائدة حجرية من لوعة الغياب.
– ما هذا الضجيج؟
** ليس ضجيجا، هو هدوء الدمعة النازلة على وتر
ناعس، يجر الصمت على خيط من الهمس،
وهو لهيب الدخان في اكتواء الموقد.
– أنت المغني أم عازف الناي؟
** كلاهما في صفير القصب!
بلا حنجرة، يزف صوتك للبعيد، لا أحد غير المغني يصيح:
يا صمت، يا دمع، يا غياب، يا سراب
أنت السامع الحزين على تلك المائدة في فقر كؤوسها والغياب
ليس لك الحق بالغناء، أنت مستمع غريب على كرسي من وجع
يأخذك الكرى للبعيد، فتهش الصدى في بخار آهات حزينة
ثم تعلو كموج على سارية، تطير وتحط، لا صداقة مع البحر
ولا أمان للموج، وأنت بلا مجداف ولا شراع في تيه العتمة
كأن الليل قصيدة بلا منتهى، مركب بلا سارية، ولا تباشير بالوصول
ما زلت تصدح، أنت السامع، تحيطك الدموع كبحر من ورق
كعاصفة هوجاء، لكن القاعة فارغة، وليس فيها غير الصدى
يعبر الى أشواق من حرير، تناغي الليل بوحشة غريب
هكذا عزف اللحن في النعاس، هكذا قالت صفصافة القلب:
أن السراب كذبة فلا تصدق العين
لا تصدق مثواك للقمر، لا تصدق عشق الغرباء
مرتْ قافلة الذكرى قرب القاعة الفارغة، فصاح القلب:
الى أين الرحيل؟
لا رد، لا جواب
غير ان الحبيبة أخرجت فمها من القافلة
وصاحت: سوف تجدني في الغابة البعيدة
في ذلك السراب البعيد
فأحفر اسمي على قبر، وأرقد على ذكرى يتيمة،
أنتظرْ، ما تبرح أن تكون أغنية
لأنك السامع الغريب لكل النحيب
وريشة هذه اللوعة التي تصرخ في محابر الغياب.