الميكانيزمات النفسية للإعلام والثورات العربية

( 1 ـ 2 )
محمد بسيوني عبد الحليم

شكلت لحظة الثورات العربية اللحظة الاكثر دراماتيكية في تاريخ الإعلام بالمنطقة فبعد عقود من التراجع وتضاؤل القدرة على التأثير الإيجابي في المجال العام العربي بدا ان الثورات العربية تطرح انموذجًا لعلاقة متداخلة بين الإعلام (سواء التقليدي او الإلكتروني) والانساق المجتمعة لدول الربيع العربي ليصبح الفاعل الإعلامي عنصراً حاضراً ومؤثرًا- مع الاعتراف بوجود خطاب إعلامي مواز دافع عن الأنظمة الحاكمة- يعزز من الشعارات الثورية الداعية لانموذج مغاير للدولة العربية قائم على العدالة الاجتماعية والمواطنة ورحيل الأنظمة الحاكمة بكل ازماتها.
هذا التداخل في مشهد أسقاط الأنظمة الحاكمة والتعبير عن مطالب الحركات الثورية عزز من الشرعية الإعلامية في مرحلة ما بعد رحيل تلك الأنظمة وسرعان ما دخلت الدول العربية في مراحل انتقالية ممتدة شوهت رومانسية ميادين الثورات التي لم تكن سوى حالة استثنائية في تاريخ المجتمعات العربية راح بعدها الواقع الثوري والتوافق السياسي ليكرس تباينات وتمايزات فكرية وسياسية اكثر عمقاً وعنفاً في ان واحد تجلت ملامحها في وسائل الإعلام التي باتت تلعب دورا مركزيا في تكوين مدركات الافراد وطريقة فهمهم للوقائع السياسية التي يصفها جان فرنسوا بابار انها ليست موجودة كما هي ولكنها موجودة كمواضيع تفسر على وفق محددات معرفية وعاطفية ورمزية خاصة بكل مجتمع.
وهكذا تركت المتغيرات الراديكالية للمراحل الانتقالية بصماتها على الخطاب الإعلامي والذي طور مجموعة من الميكانيزمات النفسية يمكن من خلالها التفاعل مع الواقع الجديد والتأثير فيه فالفرضية المطروحة هنا-والتي تسعى هذه المقالة الى اختبارها- ان السياقات التي تشكلت بالمنطقة في اعقاب الثورات ارتبطت بنحو او بآخر بالميكانيزات النفسية التي استعمالها الإعلام بوصفه احد المكونات الرئيسة لهذه السياقات.
ما بعد الثورات:
مثلت دعوة مارتين باربيرو Martin Barbero خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي الى التحول في دراسات الاتصال من التركيز التقليدي على وسائل الإعلام الى التركيز على الوسائط الاجتماعية والثقافية التي يتفاعل معها الإعلام المدخل الاكثر اهمية في الدراسات المعاصرة للتعبير والطبيعة التفاعلية والتداخل بين وسائل الإعلام والسياق المجتمعي القائم ولا يمكن استثناء الثورات العربية من هذا الطرح التفاعلي فحينما اندلعت الثورات العربية كان الإعلام يبحث عن صياغة جديدة لمفرداته وألياته النفسية الخاصة- احدهما يعبر عن الأنظمة الحاكمة ويكرس الخوف من المجهول والفوضى التي ستحدث حال سقوط هذه الأنظمة اما الخطاب الآخر فقد كان يعبر عن الحركة الثورية ويبشر بمستقبل افضل يحدث قطيعة مع ماضي المنطقة.
لقد تخلفت الاستقطابات الحادة من رحم الثورات العربية وهو امر ارتبط بطبيعة القوى التي قامت بهذه الثورات حيث كانت الأنظمة الحاكمة الخصم المشترك لها وبالتالي بعد سقوطها لم يعد هناك ما يجعل هذه القوى على التوافق فيما بينهما وبدلا من ذلك سعى كل طرف الى اثبات جدارته واحقيته الى ادارة شؤون الدولة وتحديد ملامح النظام الجديد القائم على انقاض الأنظمة القديمة ناهيك عما افضت اليه الثورات من رفع سقف التوقعات المجتمعية وهو ما نتج عنه فرض المزيد من الضغوط على الأنظمة الحاكمة في فترة ما بعد الثورات وحيث ان مطالب الشارع تتحرك بوتيرة اسرع من ايجاز المؤسسات الرسمية فقد تزايد الاحباط العام وبالتبعية تنامى الشعور لدى البعض بالحرمان النسبي مقارنة بالآخرين.
بموازاة تلك التغيرات الحادة في المجتمعات العربية كان الإعلام هو الأخر يشهد تغيرات كبرى- قد تكون بدأت قبل سنوات ولكنها اتخذت منحى اكثر راديكالية بعد الثورات- كانت لها انعكاساتها على التفاعلات السياسية والصراعات التي اندلعت بعد الثورات وبوجه عام اتخذت هذه التغيرات الإعلامية ثلاثة انماط رئيسة تتمثل في التالي:
الانتقائية الإعلامية: اذ ان وسائل الإعلام تتعمد في الكثير من الاحيان لاسيما في أوقات التدافع المجتمعي التركيز على قضايا بعينها وإضفاء المكانة والقوة على بعض الافراد والجماعات من خلال التركيز الإعلامي عليهم واكسابهم الشهرة ومن ثم المزيد من النفوذ (حتى ولو كان متخيلا) تجاه الجماعات الأخرى فالإعلام وفقاً لنظرية تحديد الألويات- هو الذي يقوم بترتيب اهتمامات الجمهور من خلال ابراز القضايا التي تستحق واهمال قضايا أخرى فيبدى الجمهور اهتمامه بهذه القضايا من دون غيرها ويمنح المزيد من الوقت للتفكير في قضايا بعينها.
وتتعزز انتقائية الإعلام بتوافر القابلية لدى الفرد متلقى الرسالة الإعلامية للتعرض للرسالة الإعلامية المتحيزة ففي السياقات التي تتسم بعدم الوضوح والصراعات المجتمعية يشرع الافراد في عملية الانتقاء لوسائل الإعلام التي يعتمدون عليها فالجمهور كما يصفه ريموند باور جمهور عنيد يرفض التعرض بنحو سلبي للرسائل الإعلامية وله دور ايجابي حاليها فهو يختار من الرسائل ما روق له دون غيرها وفقا لعدد من الاعتبارات الانتقائية التي تختلف فيما بين الافراد.
الفوضى الإعلامية: فخلال السنوات الماضية وهو مسار إرهاصاته قبل الثورات العربية تعرفت المجتمعات العربية على عالم مغاير في ضوء امتدادات للمجال العام تمثلت في امتدادين رئيسين احدهما يعبر عن امتداد الفضاء الإعلامي لتتسابق الافكار بصورة كبيرة ومعها تتزايد درجة الاعتماد الجماهيري على الإعلام فيما كان الامتداد الثاني يتمثل في تعاظم الحيز الذي يشغله الفضاء الالكتروني ووفقا لتعبير ورويك موراي فان ظهور الانترنت والفضاء الالكتروني اسفر عن بزوغ الفضاء المجازي الذي لا يوجد على ارض الواقع ولكن قد تكون له أثار حقيقة.
كان لهذا التوسع الإعلامي ابعاد سلبية في مرحلة ما بعد الثورات العربية لعل ابرزها حالة الفوضى الإعلامية التي لم تقتصر على الإعلام التقليدي ولكنها امتدت بنحو اكثر راديكالية الى الفضاء الإلكتروني حيث ان حالة الفوضوية السائدة في الواقع انتقلت الى الفضاء الإلكتروني الذي بات يشهد فوضى افتراضية Virtual Chaos تتسم بعدم القدرة على تحديد هوية الفاعلين الحقيقية والتدفق الحر للمعلومات والأفكار على نحو يجعل من الصعب التأكد من صحة ودقة المحتوى الإعلامي والالكتروني علاوة على الافتقاد لسلطة تنظيمية عليا وفي هذا الاطار اصبح الفضاء الالكتروني بنحو عام يعرف ظاهرة جماعات الكراهية Hate Groups والتي تعبر عن تنظيمات وتجمعات توظف الانترنت للدعوة الى العنف والعداء غير المبرر تجاه اشخاص او مجموعات لها سمات عرقية او دينية او جهوية او حتى جنسية؟
الاستقطاب الإعلامي: حيث أفسحت الحالة الفوضوية المهيمنة على واقع ما بعد الثورات المجال امام استقطابات إعلامية غير محدودة فبعد سقوط الأنظمة الحاكمة في دول مثل تونس ومصر وليبيا والحروب الأهلية التي اندلعت في اليمن وسوريا وليبيا ظهرت العديد من القنوات الفضائية والصحف والمدونات والمواقع الإلكترونية واغلب هذه الوسائل الإعلامية مملوكة لرجل أعمال ذوي طموح سياسي وحركات سياسية لها مصالحها الخاصة وبالتالي كانت هذه الوسائل تعبيرًا عن توجهات مالكيها وتتعاطى مع القضايا من منظور ضيق يخدم في المقام الأول والأخير مصالح محددة
حينما تكون المجتمعات منقسمة على ذاتها- مثلما هو حادث في الكثير من المجتمعات العربية تتزايد احتمالات ظهور الجيتوهات الإعلامية المنعزلة وجزر الطوائف العراقية بحيث تميل كل الفكرية وهكذا اضحت وسائل الإعلام العربية في المراحل الانتقالية تعبر عن خيارات طرف ماء وتستبعد ما يطرحه الآخرون فوسائل الإعلام مثلا في مصر وتونس تجاوزت لحظة الوفاق الثوري وعملت على تغذية الاستقطاب والصراع السياسي حول هوية الدول وشكل السلطة وفي ليبيا واليمن وسوريا كان الامر اكثر تطرفاً وعنفاً في ظل تماهي وسائل الإعلام مع الفصائل والجماعات المتصارعة وتأسيس كل فصيل لوسيلة الإعلام المعبرة عن رؤيته وأهدافه.

* باحث في العلوم السياسية
في الغد الحلقة الثانية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة