رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 1
حوارات مع جرجيس فتح الله*

الصبا والحداثة
س: بدأتم بالكتابة في مقتبل العمر ، هل لكم أن تتحدثوا لنا عن البدايات؟
اريد ان امهد لجوابي بهذه الكلمة ان سمحت لأني الآن في موقف صعب ، موقف الحديث عن نفسي وهو ما أتحاشاه كلما وجدت الى ذلك سبيلا وأمنت مخرجا ، فالناس في معرض هذا الموقف طائفتان طائفة تطرب وتصاب بخيلاء وتصطاد كل فرصة للتحدث عن اعمالها ومنجزاتها بصدق او كذب او مبالغة ، وبما يبدو نوعا من الزهو والتعالي . وبعضها وهو الاريب الداهية يتصنع التواضع ويتعمد التقليل من اهمية دور معين له سئل عنه في سبيل انه يمهد لنفسه السبيل الى مبالغة او تهويل في دور اخر .
ثم اني لا اعدّ نفسي من اولئك الانطوائيين . وتلك هي الطائفة الاخرى التي تظن بوقائع حياتها وتجاربها عندما يطلب منها الحديث عنها ، فأنا كاتب وكثير من الاوساط تدرجني في عداد المؤرخين وذوي الافكار المستجدة ، وانا احمل على عاتقي ثقل اكثر من عشرين كتابا مؤلفا ومترجما مملوء بأبحاث ومقالات بالعشرات . في امهات المجلات والصحف .
اذن فما اظن حياتي بمثل هذه التفاهة ، بحيث يخجلني الحديث عن طرف منها ، ولا أظنها غير جديرة بالاذاعة والنشر . وان اعتبرنا معدل ثلاثين عاما للجيل البشري الواحد ، فعمري يعادل جيلين واكثر من نصف جيل رافقت عهد الانتداب وانا صبي ، وعشت العهد الملكي والاستقلال وعانيت منه وانتفعت به وواكبت انقلاباته العسكرية وثوراته وانتفاضاته المحلية . وقاسيت من هذا العهد الذي يطلق عليه اسم ” الجمهوري” ، وفي معظم الاحيان كان دوري في الاحداث ضئيلا جدا او هامشيا . بل كان في الواقع دور المتفرج المراقب ، والضحية .لم اعرف اسمي في عالم السياسة والحياة العامة مرتبطا قط بحدث كبير، خلا مقالات ثلب وتشهير بي تنشر بين ان واخر . ولم اتقلد منصبا رسميا يتاح لي الانطلاق عبره في عالم الحياة السياسية وليطلب مني او لاقدم هنا او في اي مكان اخر حسابا بسببه . وبمختصر القول كنت واحدا من القلة التي كتبت لها السلامة بين الا طحنتها غوائل الاحداث المأساوية التي المت بالعراقيين . لا امتاز عنهم الا ببعض شهرة غنمتها من معالجتي الكتابة تأليفا وصحافة . وليس في حياتي ما اخجل منه وما أحاول إخفاؤه.
انه ليبهجني حقا ويغمرني بالسعادة ان البي طلب جريدة ” خةبات ” و ” برايةتي _التاخي ” فقد رافقت “خةبات” عضوا في اسرة تحريرها منذ ولادتها في العام 1959 ، وبأسمي وتوقيعي قدمت طلب استئناف اصدار” التأخي ” عقب الحادي عشر من اذار في العام 1970.
والان الى السؤال : تسألني كيف كانت البداية ، وانا لا ادري كيف اضع نهاية للبداية ، قبل التورط في الحديث عن بداية النهاية .
للوسط عامل كبير . نشأت لأبوين يحسنان القراءة في عصر غلبت عليه الامية . وفي المنزل عدد كبير من الكتب الدينية كانت كما يحدثوني به ، مصدر اهتمامي الخاص بتقليبها وانعام النظر فيها ، عازفا عما يشغل امثالي من المسليات وضروب اللهو ، الامر الذي حمل الوالدة –ربما تخلصا من اسئلتي الكثيرة واشغال وقتها – على اخذي الى المدرسة الاولية القريبة من دارنا ولم أتجاوز الخامسة بأكثر من بضعة اشهر ، بغية تسجيلي في الصف الاول . وتقول لي الوالدة ان مدير المدرسة وهو كاهن سرياني سأل عن عمري ولم يكن يقبل اذ ذاك من قلت سنه عن سبع ، وعندما انبأته به اجابها مازحا . “لماذا لم تأت بمهد معه ” . وادركت الوالدة المزحة وحدثته عن شدة تعلقي بالكتاب والأسئلة المزعجة التي القيها عليها حولها ليل نهار ، فقال لها : ” اذهبي وزيدي في عمره سنتين وسأقابله “.
وفي ذلك الحين وبعد صدور قانون الجنسية العراقية كان يتم تصحيح العمر بالزيادة والنقصان في سجلات النفوس بحكم قضائي ولا اشكال في ذلك . لا يقتضي له غير اثنين من الشهود الكذابين او الصادقين مع طلب يتقدم به وليه الى محكمة الصلح . وهكذا اضيف الى عمري سنتان ودخلت المدرسة . وفي التاسعة كنت استخدم في دروس الانشاء تعابير وكلمات تثير الحيرة في معلمي وهو القس نفسه ، في محلها احيانا وفي غير محلها وهي حصيلة قراءة مشوشة لكل ما في المنزل من كتب دين مثنى وثلاثا . ثم جاء المد الكاسح .
كانت شقيقة كبرى لي قد دخلت مدرس عرفت في الموصل حينذاك بأسم دار المعلمات ، وقد استقدمت لها وزارة المعارف طائفة من المدرسات اللبنانيات من ذوات الشهادات العليا فهيئن لطالباتهن مكتبة حفلت بكل ما اخرجته المطابع اللبنانية والمصرية من كتب ادبية وقصص وروايات وفرضن على الطالبات تقديم ملخص بالكتب التي يستعرنها ، شرطا للنجاح ، وكانت اشغال المنزل تملك على الشقيقة جل اوقاتها تقريبا فلا تسمح لها بقضاء الساعات الطوال في قراءة كتاب يزيد عدد صفحاته عن المائة او المائتين ، فاستغلت في ذلك الميل الشديد وصارت تدفع الي بالكتب المستعارة واقوم بقراءتها _على ضوء مصباح النفط ، اذ كانت المصابيح الكهربائية انذاك امتياز للطبقة الموسرة جدا-ثم اقوم بتلخيصها لها شفاها او كتابة . وبفضل الشقيقة امد الله في عمرها عرفت روايات جرجي زيدان كلها ابتداء من (عذراء قريش ) وانتهاء ب (المملوك الشارد) وعرفت منقولات المنفلوطي ومؤلفات جبران واضرابه من ادباء المهجر ، ثم تأتي الامور مؤاتيه وبنسق فريد فتقذف بي وانا في السنة الاخيرة من الدراسة الابتدائية الى مقعد في صف تولى تدريس العربية فيه الاستاذ العلامة الكبير عضو المجلس العلمي فيما بعد صاحب المؤلفات الاثارية والتأريخية ” كوركيس عواد ” ، كنت بلا جدال تلميذه المفضل ، ثم لحقت به وهو يؤرخني زميلا في كتابه الموسوعي ذي المجلدات الثلاثة ” معجم المؤلفين العراقيين” كان ذلك في العام 1970 وهو وقت صدوره على ما اذكر ، ومن الاستاذ تذوقت الشعر العربي وصرت احفظ مئات القصائد ومنه ايضا كانت اول تجربة لي في اداب الغرب لكثرة ما كان ينتقي لنا للمحفوظات من شعراء المهجر كأيليا ابو ماضي ونسيب عريضة وميخائيل نعيمة واضرابهم . واذكر مما اذكر انه كان يوزع علينا بعض مترجمات عن الادب الغربي بقيمة زهيدة ، منها ترجمه مختصرة لرواية ” جول فيرن ” الشهيرة ” الصعود الى القمر” . كنت اذكرها له كلما شاهدت واحدا من الافلام السينمائية العديدة التي اقتبست لها .
في تلك الحقبة المشوشة من متابعاتي الفكرية كانت ثمة بعثة تبشير اميركية قد فتحت لها دكانا صغيرا مطلا على شارع نينوى للمطالعة المجانية حشدت فيه اخلاطا من كتب دينية وتراجم ومنقولات عن الاداب الغربية وفيها ما يباع بثمن زهيد ، وبالقليل مما كان يقع بيدي من مال عرفت واقتنيت بعض تراجم تلك الملخصات النثرية الشهيرة التي عملها (هارولد وماري لامب ) لتمثيليات وليم شكسبير ، واقاصيص تشارلز ديكنز . عرفتها قبل ان يتقدم بي العمر لالتذ باصولها وباللغة التي كتبت بها.
واحتجت الى خزانة لما كان قد تجمع لي من كتب ودواوين ، واذنه كان صندوقا خشبيا للصابون او الشاي فجعلت فيه قطوعا خشبية . وفي مدينة الناصرية وقد قضيت فيها سنتين مع شقيقتي التي كانت تدير مدرسة اولية ، وجدت فيها سبيلي الى المجلات المصرية التي كانت تصدرها دار الهلال . وتيسرت لي مجلة ” المقتطف ” العلمية وكنت اقرأها ولا افهم الكثير من مقالاتها ، وشدتني عرى صداقة خيالية رائعة بالكاتبين المصريين سلامة موسى ومحمد عبد الله عنان ، ثم بالكاتبين الشهيرين عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني . كنت اطالع كل شيء يقع تحت يدي وبسبب من هذا لم اكن بين الطلاب الاوائل ، الا اني كنت احرز درجات غير مسبوقة في اللغتين العربية والانكليزية والتاريخ وبدأت وانا في الثالث المتوسط اقرع ابواب النظم ونشرت قصائد محكمة النسج مضبوطة على قواعد العروض ، لاكتشف بعد قليل بأني لست من اصحابه برغم اني نلت الجائزة الثانية به في مهرجان المسابقة الادبية التي اقامها نادي الجزيرة في اواخر (صيف ) العام 1938 على ما اذكر .
قد لا يكون لذكر اسماء بعض من يضطرني السياق الى إثباتهم – اهمية للقارئين وقد طوى الردى كثير منهم وانا اجهل ما حل بالبقية ، لكن وللتأريخ اذكر ان الفائز بالجائزة الاولى انذاك كان الدكتور حسن زكريا الذي عهدت اليه وكالة وزارة الخارجية ايام عبد الكريم قاسم وكان الفائز بالجائزة الثالثة ناثر اكرم العمري الذي اصبح سفيرا لبلادنا في عدة دول ، وكانت جائزتي الثانية كتابا (فجر الاسلام ) و ( ضحى الاسلام ) للكاتب المصري الكبير احمد امين بمجلداتهما الاربعة .
ومن بين المحكمين كان الاديب الكبير عبد الحق فاضل الذي قدر له ان يمثل الانعطاف الحاسم في بداياتي وانا اتوقل درجات الكتابة للجمهور .

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة