الواحدُ بعد الـ ١٧٠٠ لأنّه ُ يرى !

حمدان طاهر المالكي..
د. أفضل فاضل

هل في الأمر مصادفة أن يُبصرَ حمدان طاهر المالكي نَفْسَهُ في كلّ مرّةٍ جُزءً من المأساة التي نَفَتـْهُ عنها ؟!!!
أليس من الغريب أن يتوق انتماءً لها ! وأن يقترح عليها – مُتَشَوّقاً – وصلاً بهِ !؟
أن يشير لها ثمّ لنفسهِ بصِدقٍ مُرشداً آلامَها إلى روحه ! ……
بل هو من حيث يدري أو لايدري يكونُها جوهراً وتجلّيات ، ويَصيرُها لُبّـاً وحواشٍ ، ثمَّ يمرّ بها وتمرُّ بهِ ، فتكون الكلمات ! المأساة …..
يمضُّهُ أنّها أخطَأتهُ ! وأنّها أصمَتْ سواه ! وأنَّ هذا الأسى الأبديّ المقيم فيه لم يكن كافياً لتوقّع الفجيعة وهي تحصل في مكان ما، قريباً منهُ أو بعيداً عنه .
يعتقد دائماً أنه هناك حيث تحصل، ولو بالتعدّي ! وفي الحقيقة هي بعيدة عنهُ، عن حيث يكون ! لكنّهُ، بتدوينه لفصولها بنقشٍ من حروف وكلمات موجعة يبرهن لنا أنَّ الوَصْل بالروح لا بالمكان..
يدركُ حمدان بيقين لايشوبه وَهمٌ أنَّ وازعاً أخلاقياً يحضّهُ على الانتماء الى العَنى والهموم والمكابدات وهي تخترم الانسان أينما يكون ، بل يكاد يلمس هذا الانتماء يقيناً يسحبهُ من مكانه الى حيث يكون ذلك الإنسان ليشاركه وطأة الفجيعة كاملةً غير منقوصة الوَجَع !
حمدان شاعر زادهُ التوحّد بالحزن الإنساني العميق. وهو يفعل هذا تَوْقـاً للانتماء الى حزنٍ أكبر ، فتراه يشير الى الانسان المتأزّم البعيد ويقول : ذاكَ أنا! والى المأساة وقد أخطأته : تلكَ لي !
وفي هذا النص ، نجد شاعريته تتعملق غُـولاً مُخيفاً، وتتدفّق سَيْلاً مهولاً لترسم صوراً مثل الوَشم في اللّحم لتجسّد المأساة ….
دائماً ثمة شيء ما هناك ينتظر ، ليكمل شيئاً ما منقوصاً …..،
دائماً ، ثمة ما ، هناكَ ، دمعةٌ ، تَنْتَظرُ لتهطُلَ ، في مسيل الدمع ، وجهشة مكتومة خلف نشيج صامت لأَلَـمٍ ممضّ …، وهناك ، حتماً، قتيلٌ ، إحتمالُـهُ الأبعد في الموت هو اللّامَحَالـة !، قد استعدّ جيداً للمشهد ، كما ينبغي لقتيلٍ أن يستعد، لكنّ السيناريو وصل للمخرج ناقصاً ورقةً فيها مشهد ذبحه ، فتحجّج المخرج بعَطَل الكاميرا….!
والنهر، كان المشهدَ للذبح ، كان شرياناً للأرض ينبض بالماء، وعند الشاطيء، أبناؤهُ ، أبناء الأرض ؛ شرايينُهم تنبض بالدم الذي سيسيح !….
وتدور الكاميرا ، لتتصّل الشرايين ببعضها، من الاجساد الى النهر ، مَسيْلَين من دمٍ ومـاء ؛ إنها قيامة الدَفْق …، سالَتْ أرواحُهم في الماء لتشربها جذور الأشجار ، انتقال مدهش لنفخـة الله، من الاجساد المتغضّنة الى الأغصان الغضّة ، والورق الأخضر ! ،
لكن الشاعر لم يكن هناك ، شيء ما حَدَثَ لينتفي عن مشهد الذبح؛ وليس في الأمر نجاةٌ من مصير معين، كلّا ، كلّ مافي الأمر أنه دائماً ما تباركـهُ عناية المصادفة بأن لايكون حيث يجب أن يكون؛ هي عناية خاصة تتيح له أن يروي لنا ماحصل بـ (رؤيا) صافية ، منزّهة تماماً عن (الرؤية) ! ؛ فكثيرا مايزيغ البصر ويطغى ، وتوقن الروح ….
( ولقد يرى بالروح شاعر أُمّة ما لايرى غير النبي المرسلِ )…. هُوَ لم يكن هناكَ ، معهم ؛ وهذا مايجعلهُ جديراً بدور الشاهد الذي تملي عليه الروح لا العين إفادة ذات بصيرة تقارب اليقين؛… أمّا إذا تساءلنا لماذا ذاك ؟ فببساطةٍ ، لأنّهُ يرى …… !
لاشك عنده أنّه أحّدهم ، هو ينتظر إشارة القاتل لينظَم اليهم ؛ سيقوم المخرج باصلاح الكاميرا في أية لحظة ويتخلّص شاعرنا من هذا الألم السافر بالبقاء حياً؛ سيتمكّن هذا القَدَر، القدر الذي خيّب رجاءه وأصابهُ بالبقاء ، من أن يمحو نجاتَـه، وينقذه بالرحيل مع من رحلوا وتركوه رقماً مفرداً بعد الــ ١٧٠٠!
لقد رحلوا ، وبقي النهر ، ودماؤهم التي فيه…. والنهر يعرفهُ ، يعرف أنه كان يجب أن يكون معهم ؛… ينظر النهر الى وجهه ، وجه الشاعر، ويلعن الكاميرا ! مازالت هناك موجة من ماءٍ فيه لم تختلط دَمَـاً!
نزيفُهُ …. وهو الوحيد الذي مازال واقفاً عند الضفة ينتظر، كان ليُكمل القُدّاس بمغفرةٍ كاملـة… ألم أقل أنّ دائماً ثمّة شيء ما هناكَ ينتظر، ليكتمل شيء ما؟!
مازالَتْ ، في ذلك النهر، موجة مـاء ناصعة ، رقمها ١٧٠١، تنتظر لونها الأحمر القاني ، وروحاً بيضاءَ مؤجّلة الرحيل ، لتحملها لشجرة تنتظر بعيداً في عصور القحط والجفاف .
والآن ، ماذا سيفعل ، هذا الذي تمنّعَتْ عنه إشارة القاتل ، وأعتَمَتْ في وجهه عدسة الكاميرا، فانتفى عنه القتل؟! ماذا سيفعل والنهر لايرحم .. النهرُ هُوَ همو ، الراحلونَ ، ولا مسارب تودي به الى الماء، إليهم ؛ فالقاتل لايشير اليه ، ومازال ينتظر… ماذا الآن ؟ والنهر ينادي :أنقذني من صراخ الأمهات ، أنقذني من العطش ؟!! هل شربت دماؤهم ريَّ النهر فأحسَّ بالعطش أم هالـَهُ ريُّ أرواحهم الذي أحال أمواههُ الثرّة صحراءا؟!!
ماذا الآن ؟! أين يذهب بدَمْعهِ والنهر يبوح كيف مَرُّوا من بين يديه وكيف خانته المراكب؟! لماذا تبوح لي بهذا أيها النهر ، أنا القتيل المؤجّل ؟ أنسيتَ ؟!! أنا مثلهم ، أنا تكملة الجَمْع ؛ مامرّوا من بين يديكَ ، بل راوغوها، أفلَتوا أجسادَهم من حبائك مَوْجك واحداً فواحدا، فَمَرامُهم الأشجار التي تَستَسقي …، ولم تخُنْك المراكب ، بل أَضَلّوها لأنها راودتهم بالنجاة التى ماأرادوا….!
يكاد يوقنُ حمدان أنّ لَهُ يداً في الموج ، وخطواً في الغيم ، وعيناً على الغـد ، وإرثاً من غيض وحزن ، يجترّه من الماضي ويسحبهُ ثقيلاً مثل إزار مهلهل بلا خيلاء.
( أخي قل للصغار ) هنا يوحي لنا الشاعر أنّ للحكاية تَبَعات وأنها تأريخ يتأصّل ، ليس ببعده الفج الضحل ليثير النعرات لكن ببعد مطلق أكبر وأشمل يتمثّل ماتنتجه المأساة من إدراك لوحشية المعركة الأبدية بين الجَمال والخير كجبهة واهنة في مواجهة جبروت الكره والقبح والحقد….
ينتقل حمدان بوجوده من خارجه المادي الى داخل نفسه بلا مشقّة تُذكر ؛ ولأنّـهُ كذلك ، فهو يستطيع الوصول الى عصب المعنى بسهولة تجعلنا نعتقد أن المعنى نفسه يحابيه ويستأثره بتعبيره الأصدق من بيننا! ومثال هذا هي هذه السطور الثلاثة الأخيرة في هذا النص المذهل ؛ فلن تجد تعبيراً عن الغياب يجتثّ روحك من منابعها أسىً وحزناً مثل ماتبوح به هذه السطور الثلاثة ؛.. هم بخير ، هناك ، يحتاجون فقط قليلا من هواء البلاد البعيد …..
أمّا نحنُ ، فلقد تركَتْنا هذه السطور ياحمدان نحتاج الكثير من الهواء ليدخل الى رئاتنا لنزفر من تلافيفها الأسى.
هذه القصيدة ( غيرنيكا ) عراقية ، لكنّها رُسمَتْ بالكلمات …..!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة