علي حسن الفواز
ثمة من يحتاج الى درس ثقافي في الوصايا الفاعلة، والى اعادة تأهيل منظومته في الوعي والخطاب، وفي كل مجالات الاستعمال الثقافي..
هذه ليست دعوة لأبوية افتراضية، بل هي رؤية لاصطناع اللغة المتجاوزة، الباعثة على التذكير والاستعادة، ولإعادة البعض الثقافي إلى (الجادة)، إذ إن هناك الكثير من التوهان، والكثير من الوهم والتضليل، وربما الكثير من (العفرتة).
أول هذه الوصايا: لا تبالغ بولائك الثقافي، ولا تشتم أحداً بإفراط، ولا تمدح أحداً بإفراط…
امدح فقط وعيك الذي يدلك على منطقة الولاء العميقة، وعلى منطقة الممدوح، وينأى بك عن المقدوح والمشتوم..
الكتابة لم تعد ظلاً، ولم تعد ذاكرة خالصة، ولا حتى وظيفة في الديوان الأميري أو الجمهوري أو الآيديولوجي، انها كائن آخر، فائق ومتعال، ويمشي بالتوازي أو بالتقاطع أو بالتضاد..
الكتابة في هذا السياق هي الوصية الكبرى؛ لأنها الترياق، ولأنها القرطاس والقلم، ولأنها الشهادة، والمعنى والحافظة، لذلك تأخذ هذه الوصية عمقها الأخلاقي والتاريخي من طبيعة ما يمارسه الحفارون الذين لا يبحثون في الأرض/ النص الاّ عمّا بقي، عن الوثائق والعلامات التي نجلو عبر حروفها حوافر العابرين والمدونين، وتاريخ الخطى والمدن والأبطال والشعراء والعشاق والجميلات والمجانين.. لذا لا تاريخ ولا مجد لمن لا يملك شرط الكتابة، وكل الشفاهيات ستكون في خزائن الريح، ومن الأوهام التي لا يركض خلفها الا الواهمون..
وبرغم سعينا الدؤوب لأن نجعل من الكتابة (أثراً) فيه الحضور والمحو كما يقول دريدا.. وفيها أيضاً الوجود والغياب.. الاّ ان تاريخ ثقافتنا الشفاهي جداً ما زال يحتفظ بالكثير من الصناديق، الصناديق الحافظة للتعازيم، ولعصا الشيخ والفقيه، تلك التي تفرض علينا سطوة ما تركه الحكواتيون الشفاهيون، أولئك الذين دأبوا على تأكيد صورة (بنوتنا) وصباوتنا التي لا تكبر، حيث نكون مريدين فقط، ومنشدين في الجوق، ولا حق لنا بالسرير الأبوي ولا بالجسد والخزائن والارث..
هذه الصناديق تشبه في أيقونيتها، الكثير من الأصنام، تلك التي صيّرت الذائقة والمزاج الثقافيين الى وسط اغوائي للمجال الطقوسي وللذة الواهمة، خاضع لشهوة استمناء قهري لتلك الصناديق/ الأصنام، ولربما الاتباع الإيهامي لسلطنة عصابية وقرابية الصنم/ الرمز/ العرّاب/ الشاعر الكبير/ الروائي الكبير/ المفكر الكبير، والذي لا يكبر طبعاً ولا يشيخ… فقط نحن الأولاد الوحيدون المعرضون للإصابة بعدوى الشيخوخة والسنوات الراكضة بعنف…
الخطر الأكثر رعباً في هذا المعطى، يتمثل في أن بعض (الأولاد) الناطين إلى إغواء الثقافة ما زالوا يصدقون حكاية أسحار الصناديق والأصنام، ويعيدون إنتاجها بشكل بائس… حدّ انهم لا يصدقون أن ثمة نهرا هيرقلطيسيا آخر، وثمة قطارات تمشي، ومقابر تتسع…
صناعة الأوهام، وصناعة أشباح الصناديق ستظل – كما يبدو- صناعة مرعبة، لكن أخطر ما في رعبها أنها ستعطّل وعي بعضهم من أن يروا المنطقة المجاورة.. ومن اكتساب الثقة بالنفس والارادة والمسؤولية، لكي يملكوا حق الطفر بـ(الزانة الثقافية) إلى جهة أخرى.. أي جهة!!! المهم انهم يتخلصون من لزوجة غبار رائحة العطب الصناديقي.