التأريخ بدأ من سومر الطين واختراع الحرف الأوّل

تواصل ثقافية الصباح الجديد نشر حلقات من كتاب: سرقة حضارة الطين والحجر للكاتب حميد الشمـري
الحلقة الخامسة
الامساك بالذاكرة
تناولنا في الحلقة السابقة دور الماء والأنهر بازدهار حضارة وادي الرافدين، وكيف ان الماء الذي شكل علامة بارزة للإنسان السومري، استطاع هذا الانسان بعد جهد ومتابعة من ان يسيطر على الماء ويجعله سببا في تطوره.
‏امتلكت سومر شرف انجاب الحضارة الاولى ولكي يتواصل السومري في تطوره المعرفي والحضاري و مجابهة التحديات فقد احتاج الى ذاكرة مسجلة وعنصر جديد لتسجيلها وتوثيقها فجاءت مغامرة العقل الأولى باختراع الحرف في الوركاء (حيث خط السومري اول حروفه 3500 ‏ ق م) ونحن هنا نرتكب المجازفة واستعمال المنطق المجرد باتخاذ طرق التخمين والظن والمقارنة والمقاربة , لقد بدأ السومري تشكيل الحرف بخطوط مجردة وبسيطة وغير مركبة ربما كانت تمثل خطا واحدا يتكرر عند الحاجة يشبه رقم (1) بالحساب العربي تعبيرا عن عدد رؤوس الحيوان او مقدار الديون والتجارة وحساب محصوله ووزنه ثم جعل لهذه الارقام اصواتا خاصة بكل واحد منها وبدأ يختار حروفا ينطقها ويجمع الحروف المنطوقة لتعني شيئا (كلمة واحدة) وكانت احتياجات العمل الجماعي قد بدأت تعلم الانسان استخدام الاصوات بدل الاشارات التي تحولت بدورها الى كلام شفاهي ودمدمة عشوائية ثم الى كلام مرتب يعني شيئا محددا واستبدل اشارات اليد المساعدة الخرساء بحروف منطوقة رسمها ثم نقشها على الطين لتوثيقها وللإمساك بذاكرته خشية النسيان والضياع فبدأ يتعلم كيف يفكر ويفصح عن دواخله , ثم كانت الكتابة الصورية – والعصر الشبيه بالكتابي ( 3500 ‏- 2800 ‏ق م) التي تطورت إلى كتابة مسمارية مجردة تمثل العقل السومري التجريدي وتطلعاته وكانت جميع هذه التجارب والمحاولات مثل الجداول الصغيرة التي قادت السومري الى النهر الهادر ومجتمعه الكبير وهكذا كانت الاجيال بعد الاجيال تختزن التطورات والافكار والخرافات والاساطير المتزايدة وكان من الصعب عليه حفظ كل ذلك عن ظهر قلب , ولذلك بدأ السومري يستجمع قدراته وافكاره لتتوحد في النهاية و تنتقل به الى مرحلة اخرى من حياته حيث بدأ يدون أفكاره وكان لابد له ان يسجل كل ذلك في جداول تقويمية وحسابية ومن هنا بدأ التاريخ المدون للجنس البشري
‏وكان الطين هو العنصر الثاني والوسيط الاول المتاح والمفضل لديه لتسجيل هذه ‏التقاويم الحسابية وجميع أفكاره ‏وإبداعاته حيث كان يعجن طينته بيديه ويسطحها وينقش عليها اشكاله التجريدية البسيطة . يقول ديورانت في سفره ‏العظيم قصة الحضارة (لقد كان من حسن حظنا ان سكان ما بين النهرين لم يكتبوا بالمداد السريع الزوال او على الورق السريع العطب القصير الاجل . بل كتبوا على الطين لطري ونقشوا عليه ما يريدون نقشه – ديورانت – قصة الحضارة) (لقد كانت نشأة الكتابة المسمارية او تطورها اعظم ما للسومريين من فضل على الحضارة العالمية واوسع خطوة خطاها الانسان في انتقاله الى المدنية – ديورانت ) فقد كان في الطين يزرع ومنه بنى بيته وقريته الأولى ومعابده ومذابح قرابينها وخلواتها وقدس اقداسها وزخارفها الفسيفسائية وتماثيل آلهته , استلها جميعا من محيطه الطيني وبدأ يشيد حضارته ويرسخها ويخرجها إلى حيز الوجود رغم قساوة الظروف فكانت محاولاته الناجحة مجبولة بالماء والكدح والعرق وجميعها من الطين جاءت وفي الطين عاشت وإلى الطين عادت بعد أن ولدت الكتابة اكتمل المشهد الحضاري ليختزل كثيرا من هموم السومري واصبحت هي الحاضنة لحفظ لغته وتوسيع معارفه وتراكم خبراته التي توصل اليها وأهم مراحل التحولات الحضارية و النقلات النوعية التي منحته صفاته الإنسانية وأوسع خطواته التي خطاها في انتقاله من البدائية والبداوة إلى المدنية والحضارة (إن جوهر الحضارة هو الحرف الذي أنتج الفكر بعد ذلك وأن الحضارة هي الحد ث الأول وجوهر التاريخ ٠ ‏اوزوالد , شبنغلر). فالكتابة هي التي أدت الدور الرئيس لتدوين التاريخ ووسيلة السومري للامساك بذاكرته ورسم مستقبله وربط الأجيال ببعضها من خلا ل نقل المعارف والعلوم وبفضلها أصبحت مسيرة الحضارة تتقدم بخطوات ثابتة , (عرف السومريون الكتابة للمرة الأولى في التاريخ وكانت المدرسة السومرية هي ثمرة اكتشاف الكتابة وتطورها وتلك هي أعظم الإنجازات الحضارية التي عرفها البشر عبر القرون ٠ ‏. صموئيل نوح كريمر)
‏تشكل الشخصية السومرية
‏ترافق ظهور الكتابة المسمارية مع ظهور الختم المسطح المنقوش تجريديا والذي تحول الى اسطواني يظهر فيه أسم صاحبه مكتوبا وأشكال المعابد والآلهة وتفاصيل من الحياة اليومية والطقوسية والأساطير فكان لتزاوج الكتابة والختم دور كبير في رسم ملامح شخصية الإنسان السومري وتطوره وشعوره بالاستقلالية وكينونته الخاصة التي جعلته يمتلك قدرات عقلية ناضجة ومحرزا نتائج عظيمة , وبعد تشكل الكتابة بتكوينها الراسخ أصبحت هي الحاضنة للتاريخ وتمكن التاريخ من الامساك بالدين والأسطورة وجعلهما تابعين له و تمكن الدين والأسطورة من فتح باب التاريخ والدخول اليه من أوسع ابوابه وتشابك الجميع في تكوين فني وأدبي متماسك لس من السهل فصل أحدهم عن الآخر وتمثل ذلك بوضوح في ملحمة كلكامش التي قرأت لنا الكثير عن حياة المجتمع السومري في الوركاء من خلال سدها لتفاصيل الأسطورة , واصبحتا شخصيتا كلكامش وانكيدو محورا للكثير من فنون الوادي وبيت ماهية الفكر الديني والفلسفي الذي تشكل خلال المسيرة المدنية والحضارية والفنية في الوركاء، وألذى جزم أن لا خلود للإنسان وأن له عمله وإنجازاته التي سيذكرها التاريخ وأن الخلود هو حق مطلق للآلهة فقط .
‏الكتابة حاضنة التاريخ والأسطورة
ودالة السومريين على الانسانية
‏بعد أن اصبحت الكتابة هي حاضنة اللغة والتاريخ والأسطورة أصبحت بالتالي الحاضنة الخصبة للدين والادب والشعائر والفكر والفلسفة وصار الشعب السومري يشهد حياة متقدمة ثنائية تعايشية بين البشر والآلهة وصارت الحياة اليومية للشعب الكادح الدؤوب تسير مرتبطة مع حياة الآلهة وطقوس معابدها وزقوراتها على غير ما كانت عليه سابقة قبل الكتابة عندما كان الشعب والدين يسيران كلا على حدة ,
والحقيقة أنه بدون الكتابة دالة السومريين على الإنسانية ما كان للفكر والبشرية أن يتطورا فبدونها ما كانت لتوجد المدارس والطب والعلوم والأدب والفنون والبنوك وما كان للإنسان أن يعرف الذرة ولا تفاحة نيوتن او الكهرباء والليزر والراديو والتلفزيون والسينما والمسرح او يصل القمر وكل منجزات العلم الحديث وما كنا لنقرأ شكسبير وتوليستوي ودستوفسكي واراغون وكافكا وبيرون وايلوار وجارودي ونيرودا ولوركا وطاغور وبرناردشو وسارتر وامرؤ القيس والمتنبي والجواهري والكتب المقدسة , ولا توجد حضارة اخرى غير حضارة بلاد الرافدين اسهمت بتقديم هذا الكم الهائل من السجلات المكتوبة والوثائق التي تخصها وتخص شعوب أخرى سبقتها او جاورتها وعاصرتها وأغنت العلوم والفكر البشري ومسيرته المستمرة , وقد انتشرت الكتابة المسمارية التي فكت رموزها سنة ( 1869 ‏) بين جميع الشعوب المجاورة لبلاد الرافدين مثل الحيثيين في الأناضول والحوريين في المملكة الميتانية وفي منطقة أوراراتو قرب بحيرة وان وأرمينية والساحل السوري و عند الإخمينيين والساسانيين في الهضبة الإيرانية ووصلت حتى قبرص عبر البحر المتوسط وكانت مراسلات الملوك الحيثيين والكيشيين مع فراعنة مصر امنوفس الثالث و امنوفس الرابع (اخناتون) تتم بالكتابة المسمارية حيث عثر على أكثر من ثلاثمائة رقيم من المراسلات الملكية في تل العمارنة في مصر وكانت مصدرا ماديا مهما لمن رفي الأدب والديانات والتقاليد والعلاقات الدبلوماسية لدى الشعوب القديمة .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة