(الرواية) ديوان العرب

عبد علي حسن

لفتت الرواية العراقية منذ التحول في البنية الاجتماسياسية العراقية في نيسان 2003 الأنظار لسعة الإصدارات الروائية التي ربما تجاوزت الخمسمائة رواية بين غثها وسمينها ، ونتيجة لهذه السعة فقد أقيمت لها الملتقيات الخاصة كما في ملتقى الرواية الأول 2014 والثاني 2015 الذي أقامة اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة ، كما شهد كانون الثاني 2016 قيام المؤتمر الأول للرواية العراقية الذي أقامه نادي السرد في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين- المركز العام . وسرى بين النقاد والمهتمين بالشأن الروائي بأننا على أعتاب التحول في المقولات الساكنة في الثقافة العراقية والعربية ، لعل الوقت قد حان لإجراء المزيد من الزحزحة لما هو راكز وثابت في بنية الثقافة العربية منذ قرون خلت ، وقطعا فإن هذه الزحزحة ووضع البدائل لتلك الثوابت يخضع أو تسوغه التحولات الحاصلة في البنية الاجتماعية والثقافية المستدعية تقدم شكل أدبي أو جنس ما الى أولويات الاهتمام الثقافي بفعل ما يقدمه ذلك الجنس أو الشكل من متحقق مؤثر في عملية تشكيل الوعي الفردي والجمعي في المجتمع .
ومن المقولات التي حضيت بمقبولية ومشروعة سادت منذ عصر ما قبل الاسلام هي مقولة (الشعر ديوان العرب) التي لم يتم الاتفاق على إطلاقها لتكون من مؤشرات البنى الثقافية إلا بعد ان تمكن الشعر من أن يكون المعبر عن حاجات الفرد والمجتمع العربي طيلة قرون خلت كان فيها الشعر من أولويات الاهتمام ، الأمر الذي جعل الدرس البلاغي العربي والنقدي فيما بعد أن يؤكد حضوره الفكري المحايث لحركة الشعر العربي . وبهذا الصدد ممكن ملاحظة ظهور الدراسات البلاغية للقاضي عبد القاهر الجرجاني وعبد العزيز الجرجاني والقرطاجني والقزويني وكذلك منجز ابن قدامه في نقد الشعر واستمرار تقدم هذه الدراسات التي عدت الشعر العربي هو الشكل والجنس الأكثر تمثيلا لحاجة العرب لجنس تعبيري يستوعب الحاجات النفسية والاجتماعية والتأريخية .
ومع التقدم في تشكل العلاقات الحضارية والتفاعل بين المجتمع العربي وبقية المجتمعات الإنسانية تم استجلاب أشكال وأجناس أدبية وفنية وجدت لها مقبولية واتفاقا وصارت من المفردات المكونة للحركة الثقافية العربية ، ومن هذه الأجناس (الرواية) التي ظهرت في البنية الثقافية العربية بشكلها الفني منذ رواية (زينب) لهيكل في أوائل القرن العشرين ، بعد إرهاصات الرواية المقاماتية والتاريخية التي ظهرت في أواخر القرن التسع عشر على يد جرجي زيدان محمد فارس شدياق وغيرهم ومنذ ذلك الوقت حقق هذا الجنس الأدبي حضوره الفاعل في الاستجابة لحاجة الفرد العربي . ولعل وجود المرويات الشعبية والسير شعبية والذاتية في النسيج الاجتماعي العربي قبل وفود الرواية كجنس له اشتراطاته الاجناسية والفنية من الغرب هو ما كان سببا في مقبولية هذا الجنس أولا ولتمكن رواد الرواية العرب من الإحاطة بالمشاكل الاجتماعية والسياسبة التي يواجهها المجتمع العربي وانعكاس ذلك الوعي في الروايات العربية الأولى كان وراء نجاح هذا الجنس وتقبله في المجتمع العربي ..
كما ان انتقال التطورات الحاصلة في البنية الفنية للرواية العالمية منذ ستينيات القرن الماضي الى الرواية العربية كان من أسباب تماهي الوعي الفردي مع الوعي الجديد الذي حرصت الرواية العربية على تكريسه في نصوصها الإبداعية .
ان المتتبع لظهور وتطور الرواية العربية والعراقية منذ ستينات القرن الماضي ولحد الآن يلاحظ مدى محايثة هذه الرواية للمشكلات الاجتماسياسية التي عانى ويعاني منها المجتمع العربي ، واستطاعت المنجزات الروائية من مد جسور الثقة بينها وبين الفرد العربي لتؤكد حاجة هذا المجتمع للرواية كميدان جديد يستوعب الحراك الاجتماعي والسياسي المستجد منذ حزيران 1967 فضلا عن معالجتها للمشاكل التي تمر بها الدول العربية كلا على حدا . ولعل ما تتصف به الرواية من مواصفات اجناسية تتيح لها التحرك على مساحة تعبيرية واسعة وقدرة على التوصيف وبناء الشخصيات واستيعابها للقوانين الفاعلة في تطور المجتمع والصراع الاجتماعي (الداخلي والخارجي) كل ذلك جعل الرواية معبرة بشكل جدلي عن حاجة المجتمع العربي في الوقت الراهن دون غيرها من الأجناس الأدبية مما جعلها من أولويات الاهتمام الثقافي ليس على مستوى المشهد الثقافي لكل بلد وإنما امتد ليشمل ما تقوم به الجامعة من دور كبير في ملاحقة المنجز الروائي ووضع الدراسات على مستوى الدراسات العليا كاالماجستير والدكتوراه ورفدت المكتبة الجامعية بالدراسات الرصينة والمؤسسة لاتجاهات وتقنيات وتطورات جديدة طرأت على الرواية العربية ..فتقدمت المشهد الثقافي بكل جدارة .
وإذا كانت هذه الزحزحة لمقولة (الشعر ديوان العرب) الى (الرواية ديوان العرب) تعكس مدى التقدم والتطور الذي طرأ على الرواية العراقية تحديدا –خاصة بعد التحول في البنية الاجتماعية والسياسية العراقية– فلأنها استجابت لهذا التحول معبرة ومستثمرة لمعطيات الواقع العراقي الجديد الذي استوجب القرب من تلك المعطيات وإعادة إنتاجها فنيا وفق تقنيات استفادت كثيرا بل ومتبنية لما هو جديد في الرواية العالمية مما جعلها موضع نظر واهتمام المتلقي والدارس على حد سواء . إذ ان المضامين الجديدة التي زخر بها الواقع العراقي كانت حاضرة بهذا القدر أو ذاك في المنجز الروائي العراقي الذي شهد صدور العشرات بل المئات من الروايات باختلاف مستوياتها الفنية ، نتيجة لظهور دور النشر العديدة بعد الإطاحة بتفرد المؤسسة الثقافية الرسمية لنشر الكتب وفق انتقائية تجسد توجهات تلك المؤسسة في خدمة ثقافة السلطة البائدة فقد تماهى المتلقي مع هذا المنجز وما يطرحه من وقائع ورؤى راكزة في الذاكرة الفردية والجمعية ، إذ وجد المتلقي ذاته في تلك المنجزات وربما أحد شخصيات هذه الرواية أو تلك .
وبذلك فقد تمكنت رواية ما بعد 2003 من التعبير عن حاجة الفرد العراقي الى جنس أدبي يتمثل واقعه المدمى الذي يشهد تضادا طائفيا وقوميا واثنيا وسياسيا يدفع ثمنه يوميا المئات من المدنيين . وبهذا التمكين تصدرت الرواية أولويات اهتمام المتلقي الثقافية قبالة الأجناس الأدبية الأخرى التي لم تبتعد عن حراك ومعطيات الواقع التي اشرنا إليها كالشعر مثلا ، إلا ان تلك الاستجابة الشعرية وان اتخذت في أحايين كثيرة وضعا منبريا إلا انها كانت مؤقتة ومرتبطة بمناسبات –مهرجانية– فضلا عما تنشره الصحف من نصوص عديدة لم ترتق من حيث تأثيرها وتمثلها للمعطيات الواقعية مثلما الرواية التي لفتت الأنظار إليها عربيا وعالميا واستطاعت ان تحتل مواقعا مهمة في المسابقات الروائية المعروفة كجائزة البوكر وغيرها ..
على ان ما شكل تحولا في الرواية العراقية منذ 2003 هو تهيكلها على أحداث ووقائع حقيقية عاشها المتلقي وصار جزءا منها ، إلا ان هذا التهيكل لم يكن المقصود منه تقديم رواية تسجيلية أو تأريخية وإنما هدفها الإفصاح عن مفردات الواقع وإعادة إنتاج هذه المفردات تخييلا وافتراضيا للحفاظ على الطبيعة الاجناسية للرواية التي سأسميها الرواية الافصاحية لأنها تفصح عن مجريات الواقع الموصوعي وتقديمه على انه واقع مضمر فنيا وبالاستعانة من التقنيات الروائية السائدة والمعروفة ..لذا فان الجديد في هذه الرواية هو موضوعاتها ، وهذه الجدة تفترضها عملية التحولات والوقائع الجارية في المجتمع العراقي وتقديم تصور أدبي وفني حولها ..على اننا نبقى بحاجة الى شكل جديد متجاوز للأشكال والتقنيات السائدة وبما يتناسب وسعة المنجز الروائي العراقي المعاصر الذي احتل موقع الاهتمام الثقافي الأول للمتلقي ليكون بحق ديوان العرب.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة