الطَّريق

انمار رحمة الله

يا لها من سيقان قوية تلك التي تحملُ الدليلَ !!. إنه يسيرُ ولم ينل منه التعبُ يوماً، موضحاً ملامح كل منطقة نمرُّ خلالها. أما أنا فحالي لم يكن بخير، لأن ساقييَّ بدتا كقصبتين من شدة الضعف. لقد وهنتُ جداً وصار لزوماً أن أستريح قليلاً، لهذا قررت الجلوس لكي ألملم أنفاسي. صحيح أن حالي كان أفضل من حال الباقين، حيث تركنا جزءاً منهم وراءنا، وظل جزء آخر يناضل من أجل إكمال الطريق. في أحيان كثيرة وأنا أسير خلف الدليل، تداهمني فكرةُ أنني تورطت في المسير خلف هذا الشخص، لعله غير متأكد من وجهته أو الطرق والتفرعات الكثيرة التي مررنا بها؟!. لكن ما يبدد الشكَ في قلبي هو كلامُ الناس ومدحهم واعجابهم به، لقد سمعت الكثير عن حنكته ودهائه ومعرفته بمسالك الطرق. وإلا لِمَ تبعه كل هذا الجمع الهائل من الناس؟!.لقد كان جمعنا السائر متنوعاً، عوائل، شيوخ وعجائز، رجال ونساء، أطفال يهرولون أمامنا، لم أكن أعرف لهؤلاء الأطفال عائلة، لقد كانوا يسيرون بنشاط وفضول بريء، كان الأطفال أول من يسمع من الدليل كلامه، لأنهم ملتصقون به على طول الوقت، وكانوا حين يسمعون منه كلمة، ينقلها من في الأمام إلى من غدر به التعب في الوراء. كان الدليل يهتف دائماً بعبارات لعينة كرهتها (لم يبق إلا القليل…وصلنا تقريباً…وراء هذه الجبال أو الجبال التي خلفها). وكنّا نسير…نسير ونخادع تعبنا تارة بالكلام الجانبي، وتارة بالذكريات لأنها المُسلي الوحيد أثناء السير في طريق كهذا. لقد فرحنا أكثر من مرة أثناء سيرنا، كاحتفالنا بزواج البعض، تزوج الكثير من الرجال والنساء، بعد أن تعارفوا وهم يسيرون في الطريق معنا. وحزنّا أيضاً حين فقدنا البعض من الأصدقاء، لقد تخلفوا عن ركبناً السائر، حين قالوا (سنرتاح قليلاً ونلحق بكم)، لكنني لم أر واحداً منهم لاحقاً. في النهاية أنا كنت أراقب الأشياء حولي خوف أن يفوتني شيء هام، تارة أحث الخطى لكي أستمع إلى كلام الدليل، وتارة أسير على مهل فأكون آخر شخص في الموكب السائر. أما الأطفال فكانوا نشيطين جداً، لم يهتموا بتاتاً لطول الطريق، أما الكبار فكانوا يتعبون بسرعة، ويفكرون مثل تفكيري بالضبط، لأنني أمشي ولا أسأل كثيراً، بل لا أتكلم ولا أهتم لما حولي من شدة التعب. كأنني مريض مخدّر وجاهز لعملية كبرى. بعض الأطفال تركهم آباؤهم وحيدين في الركب، تخلّف بعض الآباء عنّا تعباً، حيث قرروا الجلوس لدقائق و أخذ القليل من الراحة، لكننا لم نرهم لاحقاً كما قلت. العجيب أن أطفالهم لم يكترثوا لغياب أهلهم، بل كانت إشارات الدليل وكلامه وشرحه يجذبهم بشكل ساحر. في الحقيقة أنا أكثر شخص ناضل، لكي يصل إلى تلك البقعة التي وصفها لنا الدليل. لم تعد الأيام تعنيني بمرورها، لقد تشابهت حتى اللحظات. صارت الخطوة التي أعبرها أختاً للخطوة التي ستأتي، تشابهت آلاف الخطوات التي قطعتها، وهذا الشيء صار يُسهّل عليَّ عدم التفكير بطول الطرق. كنت أفقد نفسي لتضيع في غابة كبيرة، غابة من التأمل العميق غوراً ،لا أعرف بعد أن أصحو من غيبوبتي تلك، كم سرت وكم مضى من الوقت. حتى أتت اللحظة التي رأيتني فيها بلا شريك من عمري، لقد كان الأطفال وحدهم من يهرولون وراء الدليل وأنا. وحين رأيت الوضع كما يبدو، قررت أن أسبق الأطفال وأوقف الدليل بالقوة، يكفي ما حدث لي وما حدث لغيري، لقد سرت بما فيه الكفاية، ولم أعد أستطع المطاولة. هرولت وراءه بكل قوتي، كنت ألملم شتات عزيمتي وحين أصل إليه أجده قد ابتعد عني !. أحاول الإسراع أكثر ومسكه من ياقته، لكنه مع سرعته الثابتة يسبقني ويفلت من يدي!. جربت الصراخ، صرخت بأعلى صوتي (توقف …) لكنه لم يكترث، كان يشرح للأطفال عن معالم الطريق وما يحيط به. (متى سنصل أيها الدليل..؟ قل لي وإلا فعلت بك ما لا ترضى) صرخت بصوت مبحوح من شدة اللهاث والتعب. لكنه لم يلتفت لي، بل حتى الأطفال لم يثرهم صوتي. تراخت خطواتي تدريجاً، ونظرت إليهم وهم يتقدمون إلى الامام بلا تعب، حاولت أن أقرر مصيري الآن، لم يعد بإمكاني الرجوع فالطريق ورائي أطول لكي أعود وحدي. هجمت على عقلي الفكرة وحدثت نفسي ( لعل الطريق انتهت وإذا لحقت به الآن سوف أصل ؟!).لكنني مع دفقة الأمل هذه لم أستطع المسير، ساقاي لم تستطيعا الحركة، قلبي بدأ يخفت نبضه شيئاً فشيئاً. لهذا قررت الجلوس قليلاً لكي أرتاح، لم يكن بانتظاري سوى صخرة على جانب الطريق، صخرة رمادية اللون شاحبة. جلست عليها وأنا أنظر إلى المجموعة التي يقودها ذلك الدليل، كانت أصواتهم تضج بالأسئلة الطفولية المليئة بالفضول، وهو يشرح لهم تفاصيل الطريق وما يدور حولهم. كانوا فرحين نشيطين غير مكترثين، تتضاءل أصواتهم مع كل خطوة يبتعدون فيها عن مكاني، وكان كلما يسأله طفل عن موعد الوصول، يجيب الدليل (لم يبق إلا القليل…وصلنا تقريباً…وراء هذه الجبال أو الجبال التي خلفها).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة