أغلب الظن أن عصر المطولات قد انتهى وحل بدلاً عنه عصر الهايكو، ليس في الشعر فحسب، بل في جميع مجالات الإبداع الأخرى! فليس ثمة من يجازف اليوم بملحمة من (11000) بيت كما فعل هوميروس في إلياذته، ولا برواية من (15) جزءاً كما أقدم عليه تولستوي في حربه وسلامه، ولا بكتاب أخباري لا أول له ولا آخر، مثلما تصدى له أبو الفرج الاصفهاني في أغانيه!
بل إن أحد علماء الأصول وضع كتاباً مفرط الطول وأرسله إلى شيخ الأصوليين مرتضى الأنصاري فرده الأخير عليه قائلاً:
إن كنت ضيعت عمراً في كتابته
فلن أضيع عمراً في قراءته!
لقد افتقد هذا الجيل الصبر على قراءة المؤلفات الضخمة ولم يعد لديه الوقت الكافي لهذه المهمة. ولم يكذب الكتاب الجدد الخبر، فطفقوا يضعون له كتيبات صغيرة على غرار رسائل الأقدمين المركزة. وبالطبع فإن هذه الكتيبات أخف مؤونة من سابقاتها. فلا تستغرق جهداً أو وقتاً أو مالاً كما كانت تفعل أمهات الكتب من قبل!
أذكر أنني حينما كنت طالباً ثانوياً في بداية عقد السبعينيات، استعرت من شاعر معروف كتاباً كثير الطول، هائل الأبعاد، اسمه المستطرف. فاستمتعت بقراءته وأعدته له بعد شهور. وعندها سألني إن كنت قرأته حقاً، فأجبت بلى! فعلق على الفور: وكيف تمكنت من قراءته!
هل توقف الناس عن قراءة الروايات الطويلة حقاً، وهل أغنتهم القصص القصيرة جداً ذات السطر والسطرين والثلاثة عنها؟
لا أظن ذلك بالطبع. فالروائيون الكبار الذين عاش معظمهم في القرن التاسع عشر مازالوا هم الأكثر قراءً، وكتبهم هي الأوسع انتشاراً. لم تغفلهم لغة من اللغات، أو تتجاهلهم ثقافة من الثقافات. كانوا لا يملون من سرد الحوادث الصغيرة، ولا يتأففون من رواية القصص الجانبية. وكانوا يرون في وفرة الشخوص، وتنوع الأماكن، نفعاً للقارئ وإغناءً للنص، وإرضاءً للغرور!
ولكن المشكلة أن القارئ الذي لا يجد غضاضة في قراءة المطولات سيجد نفسه هو أيضا ضحية لهذا النوع من الأدب. وسيكتسب بمرور الوقت صفة اللف والدوران. ويفقد القدرة على التركيز والاختصار. ويصيب محاوريه بالملل والغثيان. وإذا ما ارتقى المنصة فسيكون على مستمعيه أن يتذرعوا بالصبر وقوة الأعصاب!
لقد تغير الزمن من دون شك. ومن المحتمل أن تفقد المؤلفات الهائلة الحجم بريقها لدى العموم. ولكنها ستبقى إرثاً ثقافياً ثميناً لدى العلماء والمفكرين وأصحاب الشأن. وفي الوقت ذاته ستزداد الكتابات السريعة رسوخاً وشعبية وانتشاراً لدى السواد الأعظم من القراء.
محمد زكي إبراهيم