هروبنا

الهروب من نفق مضيء

قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967

تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.

الحلقة 4

جاسم المطير

أود العودة إلى ذاكرتي في كيفية تبلور ( فكرة ) الهرب من سجن الحلة عام 1967 . بمعنى لماذا تم اختيار ( طريق الصيدلية ــ الكراج ) ممرا لنفق الحرية ولم يتم استخدام طريق آخر .
إن عددا كبيرا من السجناء الشيوعيين كانوا ، دائماً ، يخططون في مختلف السجون لتحرير أنفسهم من بين الجدران أو الزنازين المظلمة وفي مختلف العهود والحكومات التي مرت بالعراق بهدف العودة إلى صفوف الحزب ومواصلة النضال ، وهنا أعني أننا ــ مجموعة الهاربين من سجن الحلة ــ لم نكن أول من فكر وخطط ونفذ خطة الهرب الجماعي من داخل السجن . بل أنني أؤكد أنه لم يمر يوم من أيام حياتي في السجن من دون التفكير او التأمل بالهرب وأظن جازما ان هذا التأمل مسيطر على الروح العامة لكل سجين سياسي ضمن المناخ النضالي الذي يجعله ثانية في المكان الصحيح داخل إحدى منظمات الحزب خارج السجن ، برغم ان هذا السجين نفسه لم يتوقف نضاله وهو داخل السجن . فهو يمارس خدمة حزبه أيضا عن طريق رفع مستواه و مستوى أعضاء الحزب وكوادره الآخرين من السجناء بكثير من الثقافات والدروس الضرورية .
ومن المعروف أن السجون العراقية السياسية كانت بمثابة معاهد دراسية تزود الشيوعيين بالثقافة النظرية وبالمعلومات السياسية ومواكبة وتحليل تاريخ العراق السياسي في ضوء النظرية الماركسية التي يقوم بها عادة السجناء من الشيوعيين القادة أو كبار السن في محاضراتهم ودراساتهم داخل السجون . هذا الجانب ، الدراسي أو التعليمي ، من حياة السجناء كان يدفع السجناء ، بثقل أكبر ، وبصفة خاصة الكوادر الحزبية ، إلى مواصلة التفكير الدائم للبحث عن أي منفذ إلى الفردوس المفقود ، فردوس الحرية .
في الفترة التي قضيتها شخصيا في سجن نقرة السلمان ، مثلا ، كانت هناك صفوف دراسية كثيرة لتدريس السجناء مختلف القضايا التي تساعدهم على رفع مستواهم الثقافي بما يؤهلهم للمساهمة النضالية داخل صفوف حزبهم بعد تحررهم بهذه الطريقة أو تلك من جدران السجون . فقد كانت هناك صفوف لتعليم اللغة الانكليزية والروسية ( يقوم بتدريس الروسية الدكتور صلاح الخزرجي ) والكردية والفرنسية ، وهناك صفوف لتعليم قواعد اللغة العربية وعروض الشعر ، وهناك صف لتعليم الفلسفة الماركسية وصف آخر لتعليم الاقتصاد السياسي ( كنتُ شخصيا مدرسا للاقتصاد السياسي ) وهناك صف لدراسة قضايا النفط ( كان سامي أحمد هو المدرس ) والزراعة وغيرها . كذلك تم تنظيم عدة حملات لمكافحة الأمية بين السجناء العمال والفلاحين ( وفقا لطريقة الشخصية التربوية العراقية يحي قاف ) . إضافة إلى ذلك هناك الفعاليات الرياضية الواسعة ( كان منشطها وقائدها عبد الوهاب طاهر ) بما فيها ممارسة لعبة كرة القدم . وهناك أيضا ممارسة الفنون التشكيلية والمسرحية وغير ذلك من الفعاليات الثقافية التي يقودها ويحركها ألفريد سمعان وفاضل ثامر ومظفر النواب .
نفس الشيء كان موجودا في سجن الحلة لكن بنطاق أضيق وأضعف من نقرة السلمان بسبب تفوق وجود الكوادر الشيوعية في النقرة وبسبب وجود عدد اكبر من السجناء .
كما عرفت لجان وخلايا السجون العراقية كلها الكثير من دراسات ومناقشات ” الخطط السرية ” التي صنعت عمليات هرب ناجحة في سجن بعقوبة ونقرة السلمان وسجن الكوت وسجن بغداد والحلة وغيرها ، قسم غير قليل من تلك الخطط نال نجاحا وقسم منها لم ينجح . خطة هرب الملازم الأول صلاح الدين أحمد من نقرة السلمان فشلت وقضت على حياته .
مثال آخر أقدمه إلى القارئ الكريم . قبل مجيئي لنقرة السلمان كنت أنا و ( أبو حسام ) عبد الواحد كرم ( موجود في السويد حاليا ) قد أنجزنا في ديسمبر عام 1963 حفر نفق صغير في ” حائط ” موقف شرطة القوة السيارة بطريق البصرة ــ العشار قرب مستشفى السعدي خلال 31 يوما ، بعمل ٍ تواصل في الليل والنهار وبدون معاونة أحد من خارج المعتقل . كان موقف القوة السيارة بيتا من البيوت القديمة الضخمة وكان عرض الجدار الذي حفرناه ، مترا واحدا مما استغرق منا وقتا طويلا حين اكتشفنا وجود أنبوب المجاري الصحية مارا عبر هذا الجدار ، مما فرض علينا صعوبات جمة ووقتا طويلا لتجاوز هذا العائق ، وهو أمر لم نكن نتوقعه عندما بدأنا الحفر .
كان ذلك بعد انقلاب عبد السلام عارف على البعثيين في 18 تشرين 1963 وقد استخدمنا الملاعق والسكاكين فقط إذ كنا في غرفة انفرادية صغيرة لا تتعدى مساحتها المترين . كنا ننقل تراب الحفر صباح كل يوم بتنكة البول الموجودة داخل هذه الغرفة الصغيرة وإلقائه في المراحيض العمومية . وقد نجحنا فعلا بإكمال نفق حفرناه في جدار الغرفة وليس في أرضيتها بجهد بالغ الصعوبة . لكن ” سوء الحظ ” وقف عائقا أمام تنفيذ هربنا . إذ قبل موعد تنفيذ الهرب ، ببضع ساعات فقط ، قرر محافظ البصرة ( محمد الحياني ) نقلنا إلى سجن نقرة السلمان ولم تفلح محاولاتنا في إقناع المحافظ بتأجيل نقلنا ولو ليوم واحد فقط .
كما كان سامي احمد وعبد الوهاب طاهر وحامد أيوب وغيرهم من أعضاء منظمة نقرة السلمان قد وضعوا خطة للهرب من نقرة السلمان وبدأوا الحفر فعلا وقد كان لهربنا في الحلة تأثير سلبي على عمليتهم التي لم تستكمل بسبب يقظة إدارة سجن النقرة وتشديد رقابتها على محيط السجن كله ، وأنني لم اعرف هذه المعلومة إلا بعد نجاح عملية الهرب من سجن الحلة .
كما كان مظفر النواب يحاول اغتنام أي فرصة للهرب وهكذا كان يصارحني حافظ رسن عن محاولاته للهرب . وحين تم نقلي من نقرة السلمان إلى سجن الحلة كان هدفي الأول والأخير هو تحقيق الهرب . لذلك بدأنا أنا وحافظ رسن في تبادل الأفكار حول هذه المهمة من أول يوم لقائنا في الحلة .
بهذه الصورة تسيطر على معظم السجناء السياسيين فكرة البحث الدائم عن طريقة في النجاة من عذاب السجون وتوفير الطريقة الملائمة للالتحاق من جديد بصفوف الحزب ومواصلة العمل الحزبي – النضالي . بل أن السجين السياسي يحاول ، عادة ، أن يثأر لكرامته من السجان على ضوء لعبة بارعة ومتكاملة من العاب الهرب من قبضة السجان ولذلك يحاول السجان من جانبه أن يقوم دائما بتغيير وضع الرقابة السجنية وتغيير أساليبها وتشديدها وفق شروط أكثر سوءا ، خصوصا بعد كل عملية هرب في هذا السجن أو ذاك .
السجين الذي يصدر بحقه قرار حكم بالمؤبد أو بعشرين سنة أو أكثر أو اقل يقضيها كلها أو أغلبها من حياته خلف الجدران من دون أي وجه من وجوه العدالة سوى ممارسة الحكومات المتعاقبة لسياسة القمع والاضطهاد بحق المناضلين من اجل حق شعبهم في الحرية والديمقراطية . هذا الواقع يدفع أفكار السجين الشيوعي لكي تتألق في البحث عن منفذ أو عن خطة للهرب . وعادة ما كانت جميع خطط ومحاولات هرب الشيوعيين العراقيين قد اعتمدت على المواهب في اختيار الأفكار المناسبة التي تتطور أو تتغير في كل مراحل العمل والاستعداد لتنفيذها . بعض فقرات الخطة توضع اليوم وتلغى أو تتغير غدا تبعا للظروف المحيطة بها أو بسبب ظهور مستجدات أثناء فترة التخطيط ، أو نتيجة أفكار المناقشات المستفيضة بين المستعدين للهرب خاصة إذا ما كان الهرب مقررا أن يكون جماعيا ، أي لأكثر من سجين واحد . إذ تتواصل الآراء والمناقشات بين المخططين والمنفذين من اجل الوصول إلى أنجع الوسائل القادرة على زعزعة وتحطيم كل السلاسل التي تعيق عملية الهرب في لحظة التنفيذ المقررة .
هذه الأمور سطعت بكل جوانبها أمام مخططي ومنفذي الهرب من سجن الحلة المركزي عام 1967 إذ لمعت الكثير من الأفكار خلال أيام من الجدل والدراسة لكن سرعان ما انطفأت بعض الأفكار والقرارات ، لهذا السبب أو ذاك ، ثم ظهر أفكار وقرارات بديلة .
فكيف بدأ السطوع أو اللمعان والانطفاء في هذه المرحلة أو تلك من مراحل البحث والتجريب في الهرب من سجن الحلة من خلال المناقشات الجارية يوميا ولساعات طويلة ولمسافات طويلة ممتدة من مكان نصيف الحجاج في السجن القديم حتى مكان حسين سلطان في السجن الجديد مرورا بأمكنة مظفر النواب وحافظ رسن ؟

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة