اوروبا.. إعادة اكتشاف السياسة كصراع ثقافي واجتماعي

عمرو حمزاوي

ملخّص: في العام 2019، تشهد المجتمعات الأوروبية اتّساع مساحات الخلاف في المجالات العامة مقابل انحسار التوافق، فيما بات الحديث عن «ديمقراطية الخلاف والاختلاف» وعن «الناخبين القلقين» مسموعاً في كل مكان.
الكثير من المياه تجري اليوم في أنهار السياسة الأوروبية، فبينما تتسع مساحات فعل اليمين المتطرف ويتحول في إيطاليا والنمسا إلى شريك في الائتلافات الحاكمة، ويصير المعارض الراديكالي لحكومات الوسط في ألمانيا وفرنسا، تنشط حركات اليسار إن لتفنيد مقولات العنصرية والكراهية والعداء للأجانب التي يروجها اليمين المتطرف في الفضاء العام، أو لمواجهة الفهم المغلق لهويات المجتمعات الأوروبية، أو لتجديد أفكار وبرامج الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وأحزاب الخضر لكي لا تخسر المجموعة الأولى المزيد من الأصوات الانتخابية والمقاعد البرلمانية ولكي تدفع المجموعة الثانية إلى مواقع المشاركة في الائتلافات الحاكمة.
كذلك تنفتح الأحزاب المسيحية الديمقراطية وأحزاب الوسط واليمين المحافظ على نقاشات لم تعهدها خلال السنوات الماضية، فمنها من يحاور اليمين المتطرف للتوقف على فرص العمل المشترك لاستنساخ التجربتين الإيطالية والنمساوية ومنها من يرفض مجرد الاقتراب من المتطرفين ويتخوف من تحولهم إلى ظاهرة مستمرة في السياسة الأوروبية ويدفعه هذا التخوف مع القلق من الخسائر الانتخابية إلى تبني مواقف تدعو إلى إغلاق حدود أوروبا أمام الأجانب واللاجئين وإلى التشدد في ممارسات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين المتورطين في جرائم.
وللمياه الكثيرة التي تجري في أنهار السياسة الأوروبية منابع متنوعة، وتلك في المجمل إما تشكلت في أعقاب أحداث معاصرة كبرى هزت القارة أو جاءت إلى الوجود بسبب تحولات جذرية سجلتها اتجاهات الرأي العام في المجتمعات الأوروبية وتفضيلات المواطنين. فمن جهة أولى، مثلت موافقة أغلبية البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الشعبي صدمة عنيفة للسياسيين المؤيدين للاتحاد الذين لم يساورهم الشك أبدا في أن الأغلبية «الرشيدة» في بريطانيا ستختار البقاء، ثم انتقلوا تدريجيا إلى خانات البحث الموضوعي عن العوامل التي قللت من جاذبية الاتحاد وقللت من ثقة الناس في كونه الضامن الأهم للرخاء والأمن والاستقرار في القارة، ومع البحث تثبتوا من أن الاتحاد صار في عيون الكثير من الأوروبيين آلة بيروقراطية عملاقة لا تخضع لرقابتهم أو محاسبتهم ولا تصنع من السياسات والقرارات ما يعبر عن مصالحهم أو يواجه تحديات حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، بل وتفرض عليهم عبر حكوماتهم المنتخبة اختيارات لا يريدونها، أو لا تعتبر لتخوفاتهم من ضياع الهويات القومية في مجتمعاتهم.
وإذا كانت الموافقة البريطانية على الخروج من الاتحاد الأوروبي رتبت بين المدافعين عن الاتحاد الانفتاح على بحث موضوعي عن أسباب انصراف الناس عنه، فإنها أدخلت اليمين المتطرف في مرحلة انتشار في الفضاء العام توظف بها مقولات معادية للاتحاد ومنافحة عن الهويات القومية وكارهة للأجانب ورافضة للاجئين ثم في مرحلة صعود متواصل في الحياة السياسية يعتاش على ذات المقولات وعلى خليط العجز عن التعاطي معها أو عدم الرغبة في التعاطي معها الذي مارسه في البداية يمين الوسط واليمين المحافظ واليسار بأطيافه.
وبين ٢٠١٥ و٢٠١٩، وظف اليمين المتطرف نجاحاته الانتخابية في العديد من المجتمعات الأوروبية للتدليل على أن تغييرا سياسيا جذريا يحدث في القارة وأن زمن يمين الوسط واليمين المحافظ واليسار قد ولى وولى معه المشروع الديمقراطي الليبرالي الذي «أغرق أوروبا بالأجانب» و»أنفق أموال دافعي الضرائب على اللاجئين عوضا عن تطوير البنى التحتية والخدمات الأساسية» و»أنتج على آلة بيروقراطية بائسة هي الاتحاد الأوروبي». هكذا يشوه اليمين المتطرف المشروع الديمقراطي الليبرالي داخليا وإقليميا، وهكذا يحاول سياسيوه الظهور بمظهر القريبين من الناس والمعبرين الحقيقيين عن مخاوفهم ومشاعرهم ومطالبهم دون رضوخ لحدود المقبول من أحزاب اليمين واليسار التقليدية المتهمة بالنخبوية. من جهة ثانية، شكلت السياسات المتشددة باتجاه المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء من غير الأوروبيين هزة عنيفة للتوافق بشأن المشروع الديمقراطي الليبرالي الذي اعتمدته أوروبا الغربية بعد ١٩٤٥ وقبله الجنوب الأوروبي (إسبانيا والبرتغال واليونان) في سبعينيات القرن العشرين وأوروبا الوسطى والشرقية في التسعينيات والبلقان على مضض خلال العقدين الماضيين.
لم تأت السياسات المتشددة والمصحوبة بمقولات عنصرية صريحة وبخطابات متطرفة بشأن الهوية القومية من الملتحقين الجدد وبالمشروع الديمقراطي الليبرالي وبالاتحاد الأوروبي فقط، بل صاغتها وطبقتها أيضا حكومات تتسم ديمقراطيتها بالعراقة.
فقد تبنت حكومات المجر وسلوفاكيا والجمهورية التشيكية ورومانيا وبلغاريا سياسات رافضة لاستقبال المهاجرين غير الشرعيين بمن فيهم الهاربون من جحيم الحروب الأهلية ومتحفظة على تمكين الأجانب القادمين من مناطق الحروب والصراعات من الحصول على حق اللجوء، ومخفضة للغاية من المخصصات المالية لبرامج استيعاب ودمج الأجانب، وشرع الائتلافان الحكوميان في إيطاليا والنمسا في تطبيق ذات السياسات مع الكثير من العنف الخطابي في الأولى وشيء من الرشادة والتحفظ في الثانية.
لم يمر تطبيق مثل هذه السياسات المتشددة على الحكومات الأخرى في الاتحاد الأوروبي مرور الكرام، حيث لم تتمكن حكومات ألمانيا والسويد وهولندا وبلجيكا على سبيل المثال من التمسك بسهولة بمواقفها المرحبة نسبيا بالأجانب واللاجئين، ولم تقوَ على مخاطبة الناخبين في مجتمعاتها مدعية أن التشدد وإغلاق الأبواب وخفض المخصصات المالية للقادمين إلى أوروبا من خارجها إنما ترتبط جميعها بالحكومات حديثة العهد بالمشروع الديمقراطي الليبرالي. بين ٢٠١٥ و٢٠١٩، شهدت مدن ألمانية وسويدية وهولندية وبلجيكية متعددة احتجاجات نظمها اليمين المتطرف رفعت شعارات إغلاق الأبواب وشارك بها من المواطنين من أراد التعبير عن معارضة امتناع الحكومات عن منع الهجرة واللجوء. ومن المشاركة في الاحتجاجات المعادية للمهاجرين واللاجئين إلى التصويت العقابي في الانتخابات البرلمانية وانتخابات الولايات والمناطق ضد الائتلافات الحاكمة من يمين الوسط واليسار ولصالح أحزاب ومجموعات وسياسيي اليمين المتطرف لم تكن بالطويلة تلك المسافة التي قطعها الأوروبيون المطالبون بإغلاق الأبواب، ومنها إلى تحول قضايا الهجرة واللجوء والأجانب إلى قضايا مركزية في الفضاء العام للمجتمعات الأوروبية وتراجع الحكومات المتمسكة بالمشروع الديمقراطي الليبرالي عن بعض سياساتها وممارساتها المتسامحة تجاه المهاجرين واللاجئين (خاصة في ألمانيا) لم تكن المسافة الفاصلة أيضا بالطويلة.
من جهة ثالثة، نتج عن تداعيات استفتاء الخروج البريطاني وعن تخلي العديد من الحكومات الأوروبية عن بعض جوانب المشروع الديمقراطي الليبرالي في مواقفها وسياساتها وكذلك عن تحولات اتجاهات الرأي العام بين الأوروبيين تبلور لحظة فكرية وثقافية في عموم القارة بها الكثير من الحديث عن «أزمة الديمقراطية الليبرالية» والكثير من غياب التوافق بشأن تفضيلات الشعوب وشكل الدولة التي تريدها الأغلبيات ودور الهوية القومية ووضعية الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد. في ٢٠١٩، تتسع مساحات الخلاف في الفضاءات العامة بالمجتمعات الأوروبية في مقابل انحسار التوافق، ويصير الحديث عن «ديمقراطية الخلاف والاختلاف» وعن «الناخبين القلقين» مسموعا في كل مكان، وتبحث الأحزاب والمجموعات السياسية عن تجديد وتعديل خطاباتها وبرامجها إن باتجاه المزيد من التشدد والمزيد من التخلي عن المشروع الديمقراطي الليبرالي (اليمين المتطرف في إيطاليا اليوم مقارنة بحاله في ٢٠١٥ و٢٠١٦) أو باتجاه استيعاب بعض مطالب اليمين المتطرف مع ترشيدها نسبيا (أحزاب يمين الوسط واليمين المحافظ) أو باتجاه إعادة اكتشاف قضايا العدالة الاجتماعية والتوزيعية والفجوات بين الأغنياء والفقراء داخـل المجتمعات وإقليميا على مستـوى الاتحاد (كما تفعل أحزاب اليسـار).

عمرو حمزاوي
تشمل أبحاثه الديناميكيات المتغيّرة للمشاركة السياسية في العالم العربي، ودور الحركات الإسلامية في السياسة العربية.
مركز كارنيغي للشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة