عبد الغني سلامة
بنى المصريون القدماء الأهرامات، والتي ظلت لأربعة آلاف سنة أعلى بناء في العالم، وما زالت لليوم أحد أعظم أسرار العمارة في التاريخ، وقد تطلب بناؤها ملايين ساعات العمل، ومئات الآلاف من العمّال والحرفين والمهندسين.. وهؤلاء كانوا بحاجة إلى إيواء، وطعام، وطبابة، وإجازات، وأجور.. لم يكن لديهم جامعات، ولم يكونوا حينها يعرفون أنظمة الجودة، و»الأيزو».. ومع ذلك، أنجزوا هذا البناء ببراعة غير اعتيادية. وهذا ينطبق أيضاً على كل المنجزات العمرانية التي بنتها الحضارات القديمة، في العراق واليونان وإيران والصين. في الهند، توجد شركة متخصصة بتوصيل وجبات الطعام إلى ملايين المستفيدين، تستعمل القطارات والمواصلات العامة، وآلاف العمال، وخلال عملها على مدى عشرات السنين لم يسجَّل عليها أي خطأ، لم يشتكِ أي زبون من تأخر وجبته، أو أنها لم تكن ساخنة، أو أنه استلم وجبة غير التي طلبها، ملايين الطرود تجوب مئات المدن والتجمعات وتصل أهدافها بدقة وكفاءة منقطعة النظير.. عمال هذه الشركة لا يحملون شهادات خاصة، والشركة نفسها لا تتبع أي نظام جودة من الأنظمة العالمية المعروفة.. لها نظامها الخاص والبسيط. في العصر الحديث ظهرت العديد من أنظمة الإدارة والجودة، أشهرها نظام «الأيزو» المختص في مجالات التوثيق والتنظيم والإدارة، ونظام الحاسب، المختص بسلامة الأغذية، وغيرها من نظم الفحص والمعايرة، وضبط الجودة والإدارة الشاملة، التي صارت متطلبا أساسيا لأي مؤسسة أو شركة أو مصنع، حتى يستطيع تسويق نفسه وطرح منتجاته وخدماته في الأسواق العالمية.. وبرغم أهمية هذه النظم الحديثة، ودورها الكبير في تحسين الأداء، وتسهيل التبادل التجاري، إلا أنها في جوهرها لا تختلف كثيرا عن النظم القديمة التي عرفها الإنسان في جميع المجالات. ليست المشكلة في أنظمة الجودة الحديثة، فهي ضرورية لتنظيم المواصفات والمقاييس الفنية، ولضمان سلامة المنتجات، وتحسين أساليب الإدارة على أسس علمية متطورة، المشكلة أن هذه النظم يتم استغلالها بشكل تجاري، فالقائمون عليها يصدرون كل مدة نسخة معدلة ومطورة، فتصبح الشركات والمؤسسات والمصانع ملزمة بالأخذ بالنسخ الجديدة، وهذا يعني مزيدا من الأرباح لتلك الجهات، والأهم من الأرباح أن هذه النظم الإدارية ستكون مرجعيتها دول محددة (غالبا أميركا، أو بريطانيا)، ما يعني أن تنظيم وهندسة وضبط التطورات العالمية ومصطلحاتها وقيمها ونظم إدارتها في شتى المجالات سيتم على إيقاع تلك الدول، وبالشكل الذي يخدم مصالحها، ويبقيها متفوقة ومسيطرة.
وقد أصبحت نظم الإدارة تجارة رابحة، فهذه النظم تتطلب تأهيل الجهة التي ستطبقها (مصنع، شركة، بنك، مؤسسة..)، وهذا يتطلب تدريب المهندسين والفنين والإداريين.. وتدريبهم سيحتاج مدربا مؤهلا، وجهة مصرحا لها بالتدريب.. المدرب حتى يكون مؤهلا سيحتاج دورة تدريب، وسيدفع مقابل الحصول على شهادة مدرب، والمؤسسة المسؤولة عن منح الشهادة سواء للمدرب، أو للجهة المستفيدة ستدفع نظير رخصتها للجهة الأعلى منها، وهكذا، وصولا للمركز. وبعد تأهيل الجهة المعنية ومنحها شهادة الجودة، يكون للجهة المانحة صلاحية الرقابة عليها، وتجديد الشهادة كل عام، وهذا يتطلب تأهيل مراقبين ومفتشين، الأمر الذي يعني الدخول بالحلقة نفسها، ومزيدا من الأرباح، ومزيدا من المستفيدين.. ربما الجانب الإيجابي في الموضوع: ضمان الجودة، وتشغيل مزيد من الناس في مجالات جديدة.
أما الجانب السلبي، فهو أنّ التدريب بحد ذاته صار تجارة رائجة، ونشأت مؤسسات تدريب في شتى المجالات، تدريب مفتشين ومراقبين، وحتى تدريب مدربين.. وكانت الموضة الرائجة «التدريب في مجالات التنمية البشرية»، عنوانا فخما، ومغريا.. وتحت هذا العنوان الكبير تعقد الدورات التدريبية في مجالات البرمجة اللغوية والعصبية، العلاج بالطاقة، تطوير القدرات الشخصية وغيرها من المواضيع ذات الصلة بحاجات الإنسان وهمومه ومخاوفه.. وهي علوم زائفة، لم يجزم المجتمع العلمي بصحتها.
ومن أجل منحها مصداقية، صار العاملون في هذه المجالات يؤسسون مراكز تمنح شهادات معتمدة، بوسع من يحصل عليها أن يصبح مدربا وخبيرا في هذا المجال أو ذاك، والملاحظ فخامة الأسماء، مثل: الأكاديمية الدولية، المركز العالمي، المعهد العلمي المتخصص… ولا تمنح هذه المعاهد الوهمية شهادات مدرب، أو خبير وحسب، بل صارت تمنح شهادة دكتوراه.. وهؤلاء الدكاترة نراهم ضيوفا دائمين في المحطات الفضائية والبرامج الحوارية، ولديهم مراكز للعلاج والتدريب يمنحون بدورهم شهادات لمتدربين جدد، ضمن حلقة مستمرة من النصب والاحتيال. وطبعا، هذا يختلف عن مراكز التأهيل والتدريب المعتمدة من قبل الحكومات، والتي تتخصص في مجالات علمية وفنية محددة. والمؤسف أن بعض الجامعات العربية أخذت تفتتح تخصصات وكليات لتلك العلوم الوهمية، لجذب المزيد من الطلبة، إما لحل مشكلاتها المالية، أو لجني المزيد من الأرباح.. ولدينا في جامعاتنا العربية كليات لا يوجد لها نظير في الجامعات العالمية المحترمة، لأنها ببساطة ليست علوما حقيقية.. وهذه الكليات ليست وحدها معضلة التدريس في جامعاتنا العربية؛ فهي حتى في التخصصات العلمية (أي العلوم الحقيقية، بما فيها العلوم الإنسانية والأدبية) نلاحظ ضعف الخريجين، ليس في البكالوريوس وحسب، بل وفي الشهادات العليا.
مواضيع التدريب والتعليم الجامعي فتحت شهية رأس المال للاستثمار فيها، حيث ظهرت العديد من الجامعات والكليات ومراكز التدريب التي لا تنطبق عليها المعايير العلمية الصارمة، وصارت تكاليف التعليم الجامعي باهظة جدا.. الحصول على لقب دكتوراه يكلف ثروة طائلة، والغريب المؤسف أن تلك الجامعات لم توظف تلك الأموال بتقديم برامج أكاديمية متطورة تتناسب مع تلك الألقاب التي تمنحها.
والأخطر، منح شهادات دكتوراه وهمية، يستغلها أصحاب النفوذ، لإضافتها إلى سيرتهم الذاتية، ليس من أجل «البرستيج» الاجتماعي وحسب، بل ولتحقيق متطلبات الحصول على وظائف عليا، أو دخول البرلمان.. وهذا منتشر أكثر في الأنظمة الغارقة في ملفات الفساد.
ينشر بالاتفاق مع جريدة الأيام الفلسطينية