الشعراء والناس

محمد زكي ابراهيم 

للعزلة فوائد جمة لا يعرفها إلا من ذاق مرارتها في يوم من الأيام، أو خبر أوجاعها في سنة من السنين. وقد اضطرتني جائحة الكورونا أن أعتزل الناس، الذين كنت ألقاهم بين الحين والآخر، وأجتمع بهم بمناسبة أو بدون مناسبة. وأول هؤلاء الشعراء المحدثون، الذين ثاروا على القوالب القديمة والجديدة، وحطموا القيود الصارمة والناعمة، وباتوا يغردون دون توقف، ويزقزقون بغيرما حدود !

في الواقع لا يخلو الابتعاد عن الأصدقاء من نفع. ذلك أن غيابهم يعطي المرء كامل الشجاعة في نقدهم، وبيان عيوبهم، دون أن يتعرض لخدش أو يصاب بمكروه. وقد أسهمت الانتقادات التي وجهت لشعراء عصر النهضة في خلق جيل من المجددين، العازفين عن الوقوع في المحظورات التي وقع فيها أسلافهم من قبل مثل التقليد والإطناب والتكرار والحشو والخطابة، وغير ذلك من أمور. وإذا ما تورط أحدهم بالنسج على منوالهم، فإنه يرمى بشتى التهم، ويوصم بمختلف الدعاوى، وقد يحكم عليه بالحرمان.

لكن الحقيقة أن الشعراء القدامى كانوا برغم هذه المآخذ أكثر قرباً من العامة، وأوسع انتشاراً بين الناس. فليس هناك من الشبان أو الكهول الذين يعيشون بيننا من بلغ شهرة الرصافي أو الزهاوي أو الجواهري أو شوقي أو إيليا أبي ماضي، مع كل ما نسب إليهم من تكلف وصناعة ونظم.

ويغلب على ظني أن هؤلاء الراحلين كانوا  منسجمين مع الذوق العام آنذاك. وكانوا يتحدثون باللغة التي يفهمها رجال عصرهم. وبسبب ذلك كانوا مسموعين ومقروءين. أما اتهامهم بالتقليد ففيه الكثير من الغلو وقلة الإنصاف. والدليل على خطأ هذا الاستنتاج أنهم مازالوا حاضرين حتى هذا اليوم.

لكن ما بال شعرائنا المعاصرين لا يبلغون مكانتهم بين الناس، ولا يحوزون شهرتهم في المجتمع. ولماذا لا يتداول القراء أشعارهم في المقاهي والمجالس والمنتديات. وإذا كان ما يكتبونه غير صالح للاستخدام أكثر من مرة فما هو نفعه، وما هي ضرورته، ولماذا يصرون على عدم تجاوزه إلى سواه. مع أن هذا اللون الدخيل من الشعر، لا يتوافق مع ميل العرب للحفظ والرواية والاستظهار.

إن نظرية الفن للفن، التي يؤمن بها الكثيرون، لا تعني الابتعاد عن الواقع، أو التعالي عليه. بل تعني إشاعة الجمال والذوق والمتعة في المجتمع. وهي أمور إذا ما تحققت فإنها تقود إلى نتائج جليلة. فليس من شأن الفن التبشير بأفكار أو الترويج لأشخاص أو الاحتفاء بمناسبات. وليست رسالته الزيف والتصنع والبهتان. لقد خلق من أجل إسعاد الناس، وإدخال البهجة في نفوسهم.

كنت أتمنى أن يعيد أصدقاؤنا النظر في ما يكتبون من أشعار، ويتلافون ما يقعون فيه من هفوات. فالطريق إلى المجد ليس معبداً على الدوام. ولا بد للمرء من قليل من المعاناة. وليعلموا أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، أما ما سواه فيموت من ساعته، ويتلاشى حال الفراغ منه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة