يوسف عبود جويعد
إن المتغيرات الحياتية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والحروب والأحداث الجسام التي ألمت في البلد، نتج عنها تيار جديد من السرديات، برز بشكل واضح في ظروف ما بعد التغيير، ألا وهو سرديات الغربة والهروب من جحيم البلد وحروبها ومطاردة أزلام النظام البائد لبعض من الأفراد جعلهم يفضلون الهجرة والابتعاد، ومن تلك السرديات الروائية كنماذج منتقاة وليس الحصر: رواية صلصال امرأتين للروائية ميسلون فاخر، وبنادق النبي للروائي سالم حميد، والعين الثالثة للروائية صباح مطر، ووعدت أمي بالعودة للروائية ياسمين البطاط، والعودة الى لكش للروائية رسمية محيبس، والوجه الآخر للضباب للروائي كريم صبح، والاسم على الأخمص للروائي ضياء الجبيلي، وغيرها الكثير، وبين تلك الروايات والتي تناولت هذه الثيمة، رواية (ثمرة الإله) للروائي وحيد أبو الجول، كونها تقدم لنا حياة الغربة، وكيف يعيش فيها من هرب من جور الوطن مجبراً، وكل شيء فيه يحن ويئن لتراب هذه الأرض، لنكون مع زيد ومنذ مستهل هذا النص، وهو يحكي لنا حكايته وسط مدينة ديربورن التابعة لإحدى الولايات الأمريكية، بعد أن هرب من حرب ضروس، حصدت الآلاف من الشباب حطباً لنيرانها دون وجه حق.
إن المبنى السردي لهذا النص يعتمد على الحوار في سير العملية السردية، وتحريك الأحداث فيها، وهو الكفة الراجحة على بقية العناصر والأدوات التي تدخل ضمن فن صناعة الرواية، وقد جعله جزءًا ملتصقًا بعملية البناء لهذا النص، وخاليًا من أي زيادات أو ترهلات، أو اضافات خارجة عن الاحداث التي تخللت المبنى السردي.
ونكون مع زيد وهو يتذكر الوطن بحنين واضح، مبتدءًا من منطقة الشاكرية، ثم الانتقال إلى مدينة الثورة، وعن البيت، والأم والأب، وشجرة البيت، لنعود إلى حيث يعيش، لتظهر شخصية ثانية عاشت ويلات الغربة وألم الفراق، إنها السيدة ماري، وهي من أصل يهودي، ومن جنسية عراقية كانت تسكن السوق الكبير في العمارة قبل مغادرتها إلى بريطانية:
(مكثت عائلتي في لندن لسنة كاملة فقط بعد أن خرجنا من العراق ثم غادرتها إلى برايتون، مدينة في الجنوب الشرقي من بريطانية… كبرت هناك وتزوجت من رجل يهودي ثم سافرت معه إلى أمريكا بعد أشهر قليلة من زواجنا، والمبنى الذي تسكن في شقة من شققه قد ورثته عنه بعد موته بحادث سير.) ص 29
وهكذا تنشأ علاقة بين السيدة ماري وزيد، يجمعهما حب الوطن وجور الغربة، ليسافر معها الى مدينة برايتون في بريطانية، وهي تحس برائحة الوطن وطين الريف الجنوبي وهي تتحدث مع زيد، والتي تحاول أن تقربه لها وتكشف لها عن سر لا يعرفه أحد غيره.
ثم يحين ظهور الشخصية الثالثة سارة وهي سورية الأصل هجرت من بيتها، يتعرف عليها زيد بعد عودته من برايتون إلى أمريكا في ديربورن:
(ضحك زيد ضحكة لم تمر عليها عينا سارة في السابق على طول السنوات التي عاشها معه، ضحكة دافئة خارجة من القلب.
– كنتُ أخبئه في عقلي المعطوب.
– كم أحب عقلك.
جلس زيد في صمت قبالة سارة تقريباً عشرين دقيقة ينظر إلى كل تفاصيل جسدها بعد أن عرته من ثيابها تحت سقف دافئ.
– لقد أطلت بالنظر إليّ .. ألا تأتي؟
– انت جميلة جداً.
– احتاج لملمس يديك الدافئتين
لم يحب زيد إطفاء هذه اللحظة التي كانت غائبة عنه وكأنه يرى جسد سارة العاري لأول مرة.) ص 57 .
ضم هذا النص السردي أحد عشر فصلاً، ولكل فصل عناوين متفرعة منه، وتلك العناوين جزء من وحدة موضوع الفصل، ونتابع بكل اهتمام تفاصيل علاقة الحب التي نشأت بين سارة وزيد، تتخلل العملية السردية وسير الأحداث في هذا النص ذكريات زيد وحياته داخل الوطن، فيتذكر الجارة أم محمود تلك المرأة التي فقدت زوجها وأبنيها في الحرب، وهي تخرج من عقر دارها لتتضرع الى الباري وتدعوه.
وهكذا تدور الأحداث منسابة بإيقاع متواصل متزن منسجم والسياق الفني للأحداث التي تسير بشكل متتابع نحو التواتر والاحتدام، ونتابع حركة العلاقة الطيبة مع الغرباء الذين يقطنون وطنًا آخر، وتدور أحداث كبيرة، حتى يصل خبر وفاة السيدة ماري، والامر يتطلب حضور زيد كونها كتبت وصية لا يمكن أن تفتح إلا بحضوره، ويسافر زيد إلى بريطانيا لمعرفة فحوى الوصية وماذا كتبت فيها؟ ومما جاء في هذه الوصية:
(المهم ثمن ما أملك من أموال والمودعة في مصرف بديربورن لصديقي أنطوان بطرس والبقية مناصفة بين أمي نزيهة وأخي دانيال أمّا المنزل والمبنى اللذان أملكهما أترك ملكيتهما بالكامل لزيد حميد عبد العظيم وليس هذا فقط فثمة عناء آخر أحمله إياه وهو نقل جثماني من برايتون إلى العراق ودفنه في مدينة العمارة
وهكذا فإن رواية (ثمرة الإله) للروائي وحيد أبو الجول، تنضم إلى السرديات الروائية التي ظهرت بعد التغيير، والتي تناولت حياة الغربة وآلامها وأحزانها، وهي تكشف لنا الكم الكبير من المعاناة وقساوة الحياة التي يعيشها من تغرب عن وطنه وهرب من جحيمه، وهو يعيش يومه يقلب الذكريات بحنين ونواح متمنياً أن يقبل تربة هذا الارض الطيبة.