حينما ظهرت محطات التلفزة الفضائية أول مرة، وشرعت الأقمار الصناعية بنقل الأخبار والمعلومات والتقارير أولاً بأول، اعتقد الناس أن عصراً جديداً قد بدأ للتو، وأن الحدود التي كانت تفصل بين شعوب العالم قد انهارت تماماً.
ومعنى ذلك أن التقارب بين أمم الأرض أصبح حقيقة واقعة، وأن العلاقات التي تربط بينها تحولت إلى واقع ملموس. ولم تعد هناك حساسيات تمنع بعضها من التفاهم مع بعض، كما هو الحال في السابق.
وقد تعزز هذا الشعور بشكل أكبر بظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت لملايين الأفراد في شتى بقاع الأرض فرصة التعارف والدردشة والحوار!
غير أن ما حدث بالفعل كان عكس ذلك تماماً. فلم تقدم هذه التقنيات إلا القليل من النتائج، واتضح أن بعضها عمق جذور الخلاف بين الشعوب، وضاعف الإحساس بوجود مشاكل أساسية في هذا العالم! بل أن قنوات كثيرة ناطقة بالعربية فضلاً عن غيرها من اللغات، كرست الانغلاق الفكري وإثارة النعرات ودغدغة المشاعر الدينية والعنصرية. وكان لا بد أن تأتي ردود الأفعال على النمط ذاته، وأن تتكاثر القنوات المضادة بشكل مخيف. فليس هناك من يستطيع الوقوف بوجهها، في فضاء مفتوح كهذا.
ولم يقتصر الأمر على القنوات ذات البعد الطائفي أو القومي الواحد، بل ظهرت إلى جانبها عشرات من قنوات الشعوذة والجهل والاحتيال، تخصص بعضها في النصب على المشاهد، وابتزاز الأموال منه.
على أن هذه الحال ربما تكون أخف وطأة من مواقع التواصل الاجتماعي التي حظيت بإقبال منقطع النظير. فبدلاً من الحوار بين الثقافات، أصبحت بؤرة للصراعات المحلية والإقليمية. وعوضاً عن التضامن بين الشعوب تحولت إلى وسيلة لتأجيج الخلافات. وزاد في الطين بلة استخدام التقنيات الحديثة في النسخ والتركيب لترويج الأكاذيب. وأخذت الجيوش الألكترونية تصب الزيت على النار، وتضرم الحرائق بين الملل والطوائف، والأحزاب والمنظمات. وتقوم بتشويه سمعة أشخاص، وتلميع صورة آخرين!
وهكذا تحولت التدفقات الإعلامية وهي الجانب الأبرز للعولمة إلى أدوات للعزلة، وطفقت تنشر البغضاء بين الشعوب. ولم تستطع أن تؤدي الغرض الذي أنشأت من أجله. وهو بناء مجتمع عالمي قادر على التعايش والتصالح. وقد دفعت هذه الحال ببعض أصحاب المواقع إلى فرض قيود على حرية التعبير، ووضع معايير خاصة للنشر، إلا أن هذه الإجراءات جرى احتواؤها بعد وقت قصير. واستخدمت في غير الغرض الذي أنشأت من أجله. والذي ينعم النظر في العديد من الصفحات يشعر أنها مكرسة لشن الحروب وخلق الأزمات، وبث الفرقة بين أفراد المجتمع الواحد.
وهكذا أثبتت العولمة أنها لم تنجح في هذا المجال إلا نجاحاً محدوداً. ومازالت ثمة عقبات تقف في وجه أي انفتاح مفترض في بلدان العالم. وهناك الكثير الذي يجب أن تنتهجه حتى يصبح الكوكب في نهاية المطاف مجتمعاً واحداً لا غير.
محمد زكي ابراهيم