صاحبي.. واللوحة الأخيرة

حسن صكبان

شاءت الاقدار ان تكون علاقتي به على هذا النحو الغريب والعجيب مذ عرفته او عرفني اذ لامست عيناي الوجود , صار بيننا قاسم مشترك وكل منا بمنزلة مرآة للأخر, نشأنا معا وكبرنا معا ,تناولنا الخبز البائت والشاي الساخن عند الفطور وهرعنا نصطاد العصافير والسلاحف بين أشجار الساقية القريبة , وفي المساء نأكل ما قسم الله ونستسلم للنوم , حتى اذا انبلج الصباح بدأنا من جديد, ثم جاء يوم انتظمنا به في المدرسة لأسمع اسمه يتردد باستمرار , فهذا معلم يحذر منه ويقول: ان لم تقطعه قطعك ,واخر يدعو للتفوق عليه ويوصي: ان لم تسبقه سبقك, وبعض الناس يتطرف اكثر ويصفه بالغدار, فاستغرب ذلك لأنني لم المس فيه ما يؤكد غدره ,وتولدت لدي قناعة ان مذمته تقليد مشترك وشائع بين الناس أوعادة درجوا عليها للتنفيس عن مشكلاتهم وتبرير اخطائهم ليس الا كما يفعل ابي مثلا عندما يتعرض لخسارة او يقع في مأزق ما , فيصب جام غضبه عليه ويلعنه كما يلعن ابليس الرجيم ,وها هي امي أيضا تنطق اسمه من دون ان تفصح عن مزيد عندما أسألها عن سبب انهمار دموعها اذا ما ترنمت وغنت بكلام حزين وهي تدير الرحى او تغزل الصوف, ولا اخفي الحقيقة فكل ذلك جعلني أضمر حذرا وخوفا منه ,لكن لم يؤثر على علاقتنا الطبيعية التي توثقت ابتداء من الثانوية وانتهاء بالجامعة ونسيت او تناسيت ما كان يقال بشأنه وصرنا صديقين حميمين عشنا أوقاتا ممتعة تميزت بالجمال والدعة والأمان وكنت اعزو الفضل له فيتواضع ويشير الى عوامل أخرى ويكتفي بالدور الأخير او دور الشاهد كما يسميه , فأجاريه في رأيه وأشبهه بالمرآة العاكسة لتلك العوامل التي لا اشعر بصحبتها وقربها كما هو متجسد وحاضر معي أينما أكون كما هو حاصل في هذه الأمسية وانا اتنزه في حديقة الزوراء بصحبة بيداء فأشعر به واغتبط عندما تنساب اغنية جميلة للمطرب حسين نعمة تهيم بها بيداء ويرددها هو في اغلب الأحيان إضافة الى اغان جميلة أخرى لياس خضر وسعدون جابر وقحطان العطار ورياض احمد وغيرهم ثم نضرب موعدا لزيارة المتحف العراقي أو البغدادي أو أحد العروض المسرحية وما أكثرها أو معارض الرسم أو دور السينما فأجده أمامي حاضرا مفعما بالحيوية والمزاج الرائق وأجمل ما شهدناه معا سنوات الجامعة خاصة بعدما أحببت بيداء في بداية السنة الثانية فقد استحالت أيامنا أعيادا دائمة واحلامنا نوارس بيض تجوب الافاق وحسنا فعلت حينذاك عندما وثقت الكثير مما جرى بصور عديدة بعضها ملونة وبعضها الاخر بالأسود والأبيض فهذه صورة لنا في حديقة الزوراء في وقت الربيع وهذه عند مدخل المتحف البغدادي وهذه في معرض الفنان الرائد فائق حسن حيث تظهر خلفنا لوحة الخيول الرائعة اما هذه الصورة فمع الممثل الفنان راسم الجميلي عند حضورنا لأحد عروضه الكوميدية أما هذه الصورة الغالية فمع بيداء في نادي الكلية ونحن في السنة الثالثة ولن انسى انني اتفقت مع المصور حينها ان يتأنى في التقاطها ريثما أتمكن من اضحاكها لتبدو بضحكتها وغمازتيها الجميلتين .
لكن و يا للأسف لم تستمر الأمور مثل ما كانت فقد انعطفت علاقتي بصاحبي الى منعطف خطير بعد تخرجي من الكلية وخطبتي لبيداء بستة اشهر وقد شارف العقد السبعين الجميل على النهاية … فوجئت بصاحبي يتغير بسرعة هائلة وتختفي ملامحه الجميلة الى أخرى متوحشة وعدوانية ففي احد الأيام وبينما كنت جالس في مقهى حسن عجمي فوجئت به يقف امامي بهيئة عسكرية ويحملق في وجهي بلا سبب جنيته معه ثم يستدير ويختفي مما اقلقني وملأني بالتشاؤم والهموم وجعلني افكر مليا بهذا الانقلاب المفاجئ فتذكرت العوامل الأخرى التي تتحكم به وتجعله على شاكلتها ورغما عني طفرت دموعي وانا ابكي لحاله وحالي واعلن موت صداقتنا العامرة وتحولها الى ذكرى تدق في عالم النسيان كما يقولون … بعد واقعة المقهى اخذتني قدمي غصبا عني لأحد المعارض التشكيلية.. فوجئت بالأرض ملئت حرسا وعيون المارة رهبا وخوفا , اردت النكوص فلم استطع , دخلت مع الداخلين برغم قلتهم , متعثر الخطوات زاهدا في كل شيء… في اول التفاتة لي وانا ادخل القاعة وقعت عيناي عليه وتصلبت رقبتي باتجاهه حيث يقف بهيئته العسكرية بصدر القاعة حسبما تهيا لي , دفع راسي الى الامام بحركة طبيعية منه وأشار الى لوحة على الجدار المقابل فحملقت فيها بسرعة وخرجت من القاعة بما يشبه الهرب … كانت عبارة عن نخلة البسها الرسام حذاء عسكريا وبدلة خاكية ووضع في قلبها تنين ينفث نارا تحرق العثوق المحملة برطب ناضج فيستحيل الى كرات فحم سود تتساقط في الأسفل … عندما صرت في الشارع احسست بأوصالي ترتجف ونظراتي تزيغ وتستنكر كل شيء الفته وتمتعت بمشاهدته في الامس القريب .. الشوارع والارصفة والمحال والبضائع كلها أصبحت غريبة ولا لزوم لها, غابت عنها مظاهر الفرح والجمال والسلام وتصلبت وتجهمت ملامح الناس الطيبة بما فيهم انا الرومانسي المهووس بالثقافة والكتب والمعارض والغناء تحولت الى عدواني قاتل وقصدت بيت حبيبتي بيداء بعد شهر من زيارتي لمعرض الرسم الأخير لأعيد لها خاتم الخطوبة واخبرها بقرب التحاقي للجيش وشعوري الأكيد بانني غير قادر علي تحقيق سعادتها وانا مدفوع لمصير مجهول بالحرب ..نطقت كلماتي التي حفظتها بسرعة وصعوبة وانا مطأطأ الرأس و يا ليتني استمريت بالطأطأة للآخر ولم ارفع راسي واراها على تلك الحالة التي انطبعت بذاكرتي الى الابد ..لم تكن بيداء التي عرفتها بوجهها الطافح بالعافية والسعادة والجمال لقد كتمت أنفاسها وخنقتها وها هما عيناها المقتولتان تراقباني وانا أتسلل واختفي
ظننت بانني سأخلص واخلصها لتسعد بحياتها وكنت واهما.. ها هي تطاردني وتتبعني أينما أكون ,تتبعني للجبهات البعيدة في أقصى الحدود ليس بوجهها وضحكاتها وكلماتها كما في أيام الكلية انما بوجهها ونظراتها المصلوبة في اخر لقاء وذلك ما لم أكن اطيقه واتحمله ولذلك وطنت نفسي على نهايتي وطلبتها من صاحبي الذي غدر بي وزجني في هذا الجحيم وتوسلت بالقذائف الزاخرة والرصاص الملعلع عند خط التماس ان يجود بها ولما تأخرت وعزت سعيت لها بنفسي فوطئت لغما في كمين ليلي
ولم احظ بما اردت , لم يتم الخلاص من العذاب , بترت قدمي اليسرى وتماثلت للشفاء ثم تسرحت وعينت مدرس للتاريخ بمدرسة في منطقتي وتزوجت بفتاة من اقاربي وشغلت عن صاحبي القديم المتحول وعن بيداء ـ من دون ان أنسى – بما استجد لي بعد الإصابة
كر الزمن ووقع الحصار وعانيت من شظف العيش فزاولت بيع الأجهزة القديمة والمستعملة في الباب الشرقي واذا بي أراه يتجول غير بعيد عني ويعمل حسبما قيل لي في السوق السوداء وكنت اشيح بوجهي عنه رغم قناعتي انه يعرفني حق المعرفة ,وفي يوم بينما كنت منهمكا ببيع مدفأة قديمة لأحد الأشخاص شعرت به يقف بجانبي ويهمس لي بالاعتذار ويقسم بأغلظ الايمان انه لا ذنب له بما جرى ويجري معي لأنه مجرد شاهد ليس الا ,هززت رأسي بعدم القناعة فاحتد وسدد سبابته بوجهي قائلا:ـ
ــ المسؤول الأول والأخير عن كل ما جرى ويجري لك هو انت نفسك ,سواء في الماضي او الحاضر او المستقبل..!
ــ انا.. يا ظالم.. انا..!
ــ نعم انت والاخرون فأنتم كالقطيع التائه الذي تنهشه الذئاب متى تشاء لأنكم عاجزون عن حماية أنفسكم لجبنكم ونفاقكم وفرقتكم المتأصلة فيكم
ــ سامحك الله يا صاحبي القديم..!
ــ نعم.. الله يسامحني ولا يسامحك لأنك لا تستعمل العقل الذي منحك إياه كبقية البشر.. فهم يتقدمون وانت تتراجع للوراء.. يزيدون البناء وانت تزيد الهدم في ما بناه اسلافك.. تدعي الوحدانية وتؤمن بالأصنام وتقدسها قولا وفعلا.. وكدليل لحسن نيتي تجاهك اهديك لوحة شبيهه لتلك التي رايتها في اخر معرض زرته قبل عشر سنين تتنبأ وتعبر عن مصيرك القادم في الالفية الثانية لأثبت لك براءتي مما يقع لك وستجدني شاهدا عادلا كما كنت واكون على الدوام ..ناولني اللوحة مغلفة وغادر فجمعت اغراضي وارجعتها لمكانها في احد المحال وكلي لهفه لمعرفة مكنون اللوحة ..فتحت غلافها بمجرد وصولي الى المنزل فكانت لوحة مميزة بحق وصادمة بالوقت نفسه , تظهر فيها مجموعة من التنانين بشكل دائري وهي تمسك رزم لمبالغ من فئة مائة دولار وتتسلى بنفث النار بأتجاهها وحرقها وفي الوسط يستقر قفص حديدي كتب عليه (قفص الديمقراطية) يقبع فيه شخص اعتقد انه يشبهني حسبما يتهيأ لي يتضور جوعا ويخرج يده خارج القفص ليتسول … ضحكت في نفسي وعلقت اللوحة في غرفة الاستقبال لأنها اعجبتني .. يساورني قلق وتشاؤم مما يتنبأ به صاحبي المتقلب.

حسن صكبان / الديوانية
عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب
له:
النخلة والجريمة ـ (رواية)
محنة اوروك ـ (معلقة شعرية)
رقم الهاتف ـ ٠٧٨١٢٦٥٠٦٧٢
الأيميل – hasansgban@gmail.com

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة