كه يلان مُحَمَد
لا تخلو المراحلُ التي مرت بها البشرية من العنف وتنوعت الغطاءات التي لجأ إليها الإنسانُ لتبرير هذه الممارسة .ولايمنعُ تطور المسار الحضاري من تفاقم العنفِ إذ كثيراً ما تشهدُ الحقباتُ من التاريخ ماسماه فرويدُ بحالةِ «الإرتداد عن الحضارة» قد يخْفَتُ صوتُ العنفِ في مرحلةٍ تاريخية مُعينة أو يتخذُ أشكالاً جديدة كما لايتمظهر العنفُ فقط في الإلغاء الجسدي .لك إدراج الحروب الكلامية بين التيارات السياسية والصراع القائم بين الآيدولوجيات الذي قد يتصاعدُ في خانةِ العنف غير المُنفلت وبذلك تتفهمُ أن العنفَ متأصلُ في طبيعة الإنسان على حد قول الفيلسوف الألماني (كانط) ، بالطبع فإنَّ العنف المتلبس بأردية الدين قد يكونُ أشدَّ خطورة نظراً لتماهي المكون الديني مع هوية الشعوب وتغلغله في اللاوعي الجمعي حيثُ أنَّ العامل الديني أكثرُ تأثيراً في إستنفار وتعبئةِ الجماعة ضد الخصوم أومن يعتنقُ مذهباً أو ديناً مُغايراً تكشفُ وقائع الحروب القائمة على خلفية دينية سواء بين أتباع ديانات متعددة أو بين أبناء ديانة واحدة متوزعين على مذاهب مختلفة أن النزعة الدينية هي مايُعولُ عليه لصناعة الحشود وسوقهم إلى سوح الحروب والصراعات المُحتدمة،من هنا ندركُ ضرورة مُقاربة مَفهوم الدين و حساسية هذه العملية في آن واحد،ومن الواضح أنَّ من نصبوا أنفسهم حُراساً للدين لايوفرون نعوتا في مجمعهم التكفيري إلا ويخلعونها على المُخالفين لهم في الرؤية للمُعطي الديني ومناهضين لتفسيراتهم السكونية. ما يؤدي إلى المحدودية في فهم الدلالات لأنَّ النصَ مهماكان أفقه واسعاً يضيقُ عندما يمرُ بالعقول الضيقة على حد تعبير (أدونيس).مع أنَّ جلَّ الذين قاربوا مجال تجديد الخطاب الديني كلفتهم المُغامرة ثمناً باهظاً لكن المُبادرات لم تتوقف.وتتوالي المحاولاتُ في هذا الحقل المُلَغَم. وما يقدمهُ المفكرُ المغربي (سعيد ناشيد) يأتي في هذا الإطار إذ يحاولُ في مؤلفه المعنون (دليل التدين العاقل) بلورة أطروحة مُناقضة لخطاب العنف في فهم الدين وتأويله بناءً على منظور أشمل يجمعُ بين المناهج الفلسفية والموروث الصوفي الذي يُمثـل صفـو الجوهـر الروحـي للدين.
صناعة المَفاهيم
الجوهر الأساسي في منظومة الأفكار هو المفهوم الذي يعبرُ عنها ويعطيها شكلاً وتركيبةً واضحةَ،أكثر من ذلك فإن المفاهيم برأي مؤلف (الحداثة والقرآن) أدوات التفكير والمُحَدَد لنمطه ومساراته، لذا فإن رحلة علاج أمراض الحضارة تنطلقُ من كشف المفاهيم العاطلة للعقل.فالبتالي أنَّ ماتشهدهُ مُجتمعاتنا من إستفحال ظاهرة العنفِ وتطاول شظاياها إلى أرجاء المعمورة هو نتيجة للخلل في المفاهيم السائدة.ومايعمقُ الأزمة على هذا الصعيد هو حالة الإنفصام الناشيء من الإنقسام بين الفضاء الديني الذي يستمدُ مفرداته من المُصنفات الفقهية والفضاء السياسي المُتطلع إلى مواكبة الفلسفة السياسية الحديثة طبعاً تستفيدُ التيارات الموتورة من هذا الوضع المُحتقن.يضاف إلى كل ذلك معضلة أخرى يسميها المؤلفُ بعسكرة المُعطي الديني وتفريغه من البُعد الروحي إلى أن بات آلياً ومجردَ شعارٍ،ويتمثلُ التناقضُ بين الخطاب الديني والنظام الديموقراطي بنظر سعيد ناشيد في ثلاثة مناحٍ أولاً تقومُ الديموقراطية على مبدأ الفردانية بينما ينصهرُ الفردُ في أنظمة ثيوقراطية داخل الجماعة ويُضَيعُ هويته. ثانياً أن العقلانية هي الوجه الآخر للديموقراطية وأن العقل أعدل قسمةً بين الناس ونظراً إلى هذه الصيغة الحداثوية فإنَّ الناس متساوون في القدرة على التمييز بين الحسن والقبيح ولامُسوغ لوصاية شخص على غيره. ثالثاً أن الديموقراطية تتطلبُ وجود ذاكرة مشتركة بالمقابل يعملُ الخطاب الديني على مفهوم إمة إفتراضية.ومن أعراض المرض الحضاري الذي يشخصها صاحب (التداوي بالفلسفة) هو كراهية الغرب والرهان على إنهيار المُجتمعات الغربية وبإعتبار أنَّ نهاية الحضارة الغربية بدايةُ لنهوضنا من الكبوة ويخلصُ ناشيد إلى توصيف هذه المُعتقدات بالكارثية.بناءً على ماسلفَ نفهم بأنَّ تجديد آليات التعاطي مع النصوص الدينية ضرورة ملحة لايمكن تجاهلها قبل أنَّ تتسع الخرق على الراقع.ولتلافي المصائر القاتمة يجبُ الإقرار بأنَّ داءَنا كامن في الأذهان قبل أن يتمظهر في الأعيان على حد قول ناشيد.
قواعدُ الإيمان
بعدما يتوقف سعيد ناشيد عند أسباب إستشراس ظاهرة العنف وهي ليست إلا نتيجة لتراكم الكراهية والإكتفاء بفهمِ ظاهر النص والقراءات المُختزلة يُقَدِمُ المؤلفُ خمس عشرة قاعدةً تُمكنك من فهم الدين على مستوى جديد بعيداً عن العوامل التي تُغَذي العقليات المُتشنجة يدعم صاحب الكتاب قراءته بالنصوص المؤسسة ،ويحاولُ تفسير مايُعَدُ إشكالياً ومثيراً للجدلِ وفقاً للسياقات التاريخية المُحددة،بدايةً علينا الإعتراف بأنَّ الدين مسألة مُتعلقةُ بالتذوق الشخصي كما أنَّ الشكَ لاينفصلُ عن تركيبة الذهن البشري إذ كثيراً ما تُفهمُ مفردة اليقينِ الواردة في القرآن الكريم بالموتِ وذلك لأنَّ الإنسان لاتنتهي شكوكهُ وأسئلته عن النشوء والبعث والآخرة إلى أن يدركه الموتُ ويتبينُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود.من هنا يستنبطُ سعيد ناشيد قاعدته الأولى والأساسية وهي أن الدين رهان شخصي ويستشهدُ بماورد في النص المؤسِس (لا إكراه في الدين) موضحاً بأنَّ عملية تنميط الكائن الإنساني وبرمجته على المعتقدات والآيدلوجيات تنتهي إلى فساد الذوق وخسارة تلك المُعطيات الدينية والإيمانية لرسالتها الهادفة إلى تقديم إجابات بشأنِ المصير والمآل وفي هذا الصدد يستندُ المؤلفُ أيضاً إلى آراء الفلاسفة والمفكرين ومايقوله الفيلسوف الألماني كانط يوحي برؤية مُتبصرة يرى صاحب (نقد العقل الخالص) أنَّ سلطة العقل لاتشملُ مُسَلَمات الدين وتظلُ هذه المُسَلماتُ خاضعةً للمشاعر الشخصية الغامضة.إذن أنَّ الرهانات الدينية مفتوحةُ على إعتبارات أنطولوجية ،فاليقين غير موجود في هذه الحياة ومايستخلصهُ ناشيد مدعمُ بالخطاب القرآني.
تكافؤ الطرق
.القاعدة الثانية تتعلقُ بمفهوم التعددية الدينية وشرح مكونات هذه القيم في القرآن الكريم ورصد صيغ وأساليب تكرس مبدأ تكافؤ الطرق في النص المُقدس وبهذا يكون سعيد ناشيد أقرب من الفهم الصوفي الذي يرفض المُفاضلة بين الطُرق ويقولُ جنيد البغدادي أن الطريق إلى الله بعدد أنفاس البشر.ومن ثم ينتقلُ الكاتبُ إلى موضوع الثوابت في الدين فبنظره أنَّ هناك شواهدَ تؤكدُ عدم تحجر الدين وغياب الثوابت.وأنَّ مصطلحَ السنة أوسع مما فهمناه ويشملُ كل الإبتكارات التي تنفعُ البشرية بقطع النظر عن هوية صاحبها.إضافة إلى ذلك أنَّ ثمة أقوالاً تحثُ على الإجتهاد في شؤون الدنيا وعدم التقيد بتجارب غير مُجدية.وهكذا يشرحُ ناشيد متون قواعد المتدين العاقل ويناقشُ مسألة الحجاب وإستحالة قيام السلام بين فئتين تعتقد الأولى بأن اللهَ يأكل جسداً آخر) ومايجبُ الإشارة إليه في هذا المضمار هو أسبقية الشريعة على العقيدة بحيثُ أن المروق في الدين هو بإنكار الشريعة ولا العقيدة في حين نحن نعرفُ أن الشريعة هي تأويلات وإجتهادات للفقهاء عاشوا في ظل ظروف وأوضاع تاريخية ألقت بظلالها على نمط تفكيرهم.ويضمُ محورُ آخر من الكتاب مقارنةً بين تجارب الغرب القاسية ونجاحهم في طي الصفحات السود من الحروب والتناحر الديني فيما نحن نتراوح في زمن دائري كل حرب هي تمهيد لحروب جديدة.لذلك من العبث توقع إنهيار حضارةٍ تتجدد مع كل أزمةٍ ونهوض مجتمعات تعوزها جرأة الإعتراف والمراجعة.زدْ على كل ماسلفَ ذكره أنَّ المؤلفَ يستيعدُ الإرث المنسي من التفسير العقلاني والصوفي خصوصاً ماتتضمنه مؤلفات إبن عربي والزمخشري ويعتقدُ بـأن وجهاً آخر من معضلتنا يكمنُ في سيادة العقل الحسي على العقل النظري أو غلبة التفسير الحرفي على حساب التفسير المجازي.يحاكي المؤلف أسلوب نيتشة في الفصل الرابع من كتابه إذ يتلقى من إمرأةٍ الوصايا عن الحب والدين والحياة. وهي رمز للمعرفة والعقلانية والمتدين المُتصالح مع الذات والآخر، وأعيد نشر حوارين مع المؤلف في الفصل الخامس والأخير,يُذكر أن أسلوب سعيد ناشيد يتسمُ بالهدوء في المعالجة والصراحة في تشخيص العاهات والجرأة المُتعقلة في الدفع بالعصابية المُتولدة من الفهم المُتشدد للدين إلى السطح.