محمد زكي ابراهيم
ثمة مصطلحات كثيرة أضحت بمرور الأيام مفاهيم شائعة لا تلتبس على فهم، ولا تحتاج إلى شرح، برغم أنها أبعد ما تكون عن الدقة. فقد يغني التكرار عن البحث، وكثرة التداول عن طول الاستقصاء.
وكمثل على ذلك الاستقلال السياسي، الذي يعني امتلاك الدولة لحدود وأراض لا سلطة لأجنبي عليها، ولا حق للتجوال إلا لمواطنيها فيها. فمثل هذه الأمور أصبحت محل جدل كبير في عالم مفتوح يستطيع الآخرون اختراقه من دون عناء!
وقد شاع في أربعينيات القرن الماضي مصطلح جديد هو الاستقلال الثقافي، إثر حصول بلاد الشام على استقلالها عن فرنسا، بعد نضال مرير وجهد جهيد. في ما كان الهوى الفرنسي مايزال قائماً لدى بعض الطوائف، باقياً في نفوس بعض الأفراد.
بل إن القيم الفرنسية كانت ماتزال قوية وطاغية في طول البلاد وعرضها. وكان من السهل على فرنسا أن تتدخل متى شاءت بفعل أذرعها الموجودة في الداخل، بحجة حماية الأقليات. أما لغتها فقد بقيت لغة الطبقة المترفة في بعض الأقاليم!
وقد تنازلت فرنسا في يوم من الأيام لتركيا عن أجزاء كبيرة ومهمة من سوريا، في ما كان يعرف بلواء الاسكندرون. وبمقابل ذلك نشأت لدى أبناء البلاد نزعة العداء لفرنسا، وكراهة كل ما يمت لها بصلة. كانت ردة الفعل على سنوات القهر عنيفة وقوية. ووصل الأمر إلى رفض كل مظاهر الثقافة الغربية، والفكر الغربي، أو القطيعة التامة مع المستعمر السابق وحلفائه الآخرين. وهو ما سمي في حينه بالعداء الثقافي.
لكن النخبة التي تعلم الكثير منها في فرنسا، ودول الغرب الأخرى، أدركت أن القطيعة ليست في صالح البلاد. فالاستقلال السياسي لا يعني الانغلاق، بل الإفادة من كل مظاهر الحضارة والتقنية والتفكير التي كانت تأتي في ذلك الوقت من نصف الكرة الغربي على وجه التحديد.
وكان البعض يرى أن تفتح العقول على كل ما هو نافع وراق سيعزز الاستقلال السياسي، ويمنح البلاد قوة هي أحوج ما تكون إليها في مواجهة العالم. وهذا هو بالتحديد ما عنته كلمة الاستقلال الثقافي.
ومثلما لم يثبت الاستقلال السياسي أمام العواصف التي هبت من هنا وهناك، بسبب الحاجة إلى الحماية من أخطار داخلية أو خارجية، أو الرغبة في الحصول على المال والسلاح والخبرات، فإن الاستقلال الثقافي لم يسلم هو ايضا من الاختراقات المستمرة. وكانت هناك إشكالات في الموازنة بين الهوية الوطنية والهوية الغربية، سمحت في بعض الأحيان بصعود قوى تميل إلى الثانية بشكل كامل.
وربما كان هذا وراء اختفاء مفهوم الاستقلال الثقافي تدريجياً. وإن كان قد ظهر بديل له في حقبة الثمانينيات هو «الأمن الثقافي»، لم يعمر طويلاً. فالثقافة الوطنية لا تعيش دون الاتصال بالثقافات الأخرى. ولا تزدهر إلا بما تمتلكه من تأثير. ولابد أن تكون قادرة على الأخذ، مثلما هي راغبة بالعطاء.