يوسف الشايب
من سريره في مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني، وفي سيارة إسعاف، توجه الفنان سمير سلامة، أحد مؤسسي الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر، إلى حيث أقيم معرضه الاستعادي الأول في مقر غاليري «ون» بمدينة رام الله، بينما كان جهاز التنفس المتنقل مربوطًا بأنفه على الدوام، هو الذي لم تسعفه حالته الصحية الصعبة في إتمام مراسم افتتاح هذا المعرض وقوفًا، وهو الأول من بين أربعة في مدن هي القدس وبيت لحم ورام الله والبيرة، فطلب كرسيًا، وتحدث باقتضاب.
قال وهو يلهث: ردت لي الحياة حين وجدت نفسي في فلسطين.. أيها الموت هزمتك الفنون كلها.. لم أخضع لمرض السرطان ولم أعطه أي اهتمام، ورفضته باستمرار، لكن القدر أقوى منّا جميعًا، وبالنسبة لي فإن وجودي سيتواصل عبر أعمالي، وهذا ما يهمني.. علينا أن نفتخر، برغم كل آلامنا كشعب، بأننا فلسطينيون.
وختم: مستعد لتقديم أي شيء مقابل محبة فلسطين لي، ومن دون منة على أحد، فكل ما قدمته في حياتي على مستوى العمل السياسي، وإنتاجات «الأفيش» في بيروت، وكل أعمالي جزء يسير أقدمه تعبيرًا عن حبي لفلسطين.. لم يكن يهمني أن أكون فنانًا بارزًا، أو كبيرًا كما يقولون، وكل ما قدمته واجب ليس أكثر، ومحاولة للتعبير عن حب فلسطين وعن نفسي أيضًا من خلال أعمالي.
والمعرض، كما أشار قيّمه الفنان خالد حوراني، افتتح بمبادرة نخبة من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وإدارات دور العرض (الغاليريات) في عدة مدن من فلسطين، ومؤسسات ثقافية وفنية، أبرزها وزارة الثقافة الفلسطينية والمتحف الفلسطيني، ومهتمون أيضًا، واشتمل على لوحات لسلامة تتراوح ما بين ثمانينيات القرن الماضي والعام 2018.
وكشف الفنان خالد حوراني، قيّم المعرض، أن سلامة، الذي يعاني من توعك صحي كان باديًا عليه في افتتاح المعرض جلوسًا وبالاستعانة بجهاز تنفس، هو الذي وقع على عدد من لوحاته من على سرير الشفاء، كما كشف أن الغالبية العظمى للأعمال التي تشارك في سلسلة المعارض الاستعادية تعرض في فلسطين للمرة الأولى.
وأضاف: «معرض الوفاء» هذا ينتظم بالتوالي بين أربع قاعات في أربع مدن فلسطينية، ويضم لوحات في غالبيتها العظمى تعرض للمرة الأولى في فلسطين، وأنجزها الفنان القدير سمير سلامة، أحد أيقونات الفن الفلسطيني، ومؤسسي الفن الفلسطيني المعاصر، على مدار عقود، وحملت إلى فلسطين من درعا السورية، وبيروت، وباريس، وغيرها من المنافي.
والأعمال التي تستضاف في غاليري «ون» في رام الله، وغاليري «زاوية» في البيرة، و»حوش الفن الفلسطيني» في القدس، وغاليري «باب الدير» في بيت لحم، تضم أعمالًا فنية متنوعة تعرض لتجربة سلامة على مدار السنوات الطويلة، منذ أن أقام معرضه الأول عام 1963 في مدينة درعا السورية، وكان وقتها طالبًا للفنون، ثم فنانًا بات يجوب العالم، إلى أن حطت به الرحال في فرنسا ثم فلسطين كزائر لا يكل ولا يمل.
سلامة، الذي أغنت تجربته مدونة الفن التشكيلي الفلسطيني وحتى العالمي، تميز بلغة خاصة وأسلوب عرف فيه من دون غيره في الرسم والتلوين، وهو الذي صاغه مع الوقت، بإصرار ودأب، مستفيدًا من إرثه المحلي، ومنفتحًا على فضاء العالم وتنوعه الثقافي، حيث قدم أكثر من سبعين معرضًا فرديًا وجماعيًا، استضافتها عواصم عربية وعالمية، وتنوعت أعماله فيها ما بين الواقعية والتجريدية معمدة باستعمال أنيق للخط العربي والثيمات الشرقية، وبين التخطيطيات والرسم المائي والطباعة، وغير ذلك.
سلسلة المعارض هذه تحاول استعراض هذه التجارب التي مر بها الفنان سلامة، والتطورات التي حدثت على ممارساته الفنية منذ المنفى الأول كلاجئ فلسطيني في سورية، وحتى منفاه الاختياري الطويل في باريس، وعوداته المتقطعة إلى فلسطين.
يرصد المعرض المقسم إلى أربعة أجنحة هذه الانعكاسات على فنه وحياته في رحلة استمرت وما تزال أكثر من خمسين عامًا، يروي قصصًا عنه، وعن شعبه، وعن الناس والمدن التي عاشها، وعن التيارات الفنية التي تؤثر في الفنان والظروف السياسية والاجتماعية التي تصوغ تجربته على هذا النحو أو ذاك.
سلسلة المعارض الاستعادية للفنان الفلسطيني القدير سمير سلامة تشكل تاريخًا كاملًا لحياة فنان تقفز لغته الفنية، كما شغفه إلى قماش اللوحة وقصاصات الورق التي يلفها على الدوام خيط شفيف غامض كبصمة وعلامة لا يحتاج ليمهرها بتوقيعه الشهير في الزاوية: ملون، بارع، أنيق، تنساب خطوطه وألوانه بعذوبة منقطعة النظير، تلعن العتمة، وتحتفي بالضوء وظلاله على الأشياء.
في المعارض الاستعادية لسلامة لوحات وأعمال تشكيلية تمتد على مدار الفترة ما بين عام 1961، حيث لوحة بالرصاص بعنوان «درعا» ترصد مشهدًا من شوارعها في ذلك الوقت، تلتها في العام التالي لوحة بذات العنوان، وبذات الأدوات، وربما في الشارع نفسه، وما بين عام 2018 بلوحات تجريدية تجريبية عبر عنها سلامة في حفل الافتتاح بروح الفكاهة، وبعمق أيضًا، حين أشار إلى اللون الأزرق في إحداها، وهو يخاطب الجموع «هذا أحمر»!
وقام الكتاب المرافق للمعرض، وحمل عنوان «سمير سلامة»، واشتمل على حوارات مستعادة معه أيضًا، وقراءات في أعماله، بترتيب الأعمال المشاركة من الأقدم فالأحدث، ما يمنح الباحث والمهتم فرصة كبيرة في تحليل تطور أساليب التعبير البصري عبر اللوحة لدى الفنان الفلسطيني، كما لم يغفل عرض مجموعة من ملصقات الثورة التي صممها في عقود مختلفة.