ناعومي وولف*
مع استمرار قصف غزة، وارتفاع أعداد القتلى بين المدنيين إلى أكثر من 1200 قتيل ــ يشكل الأطفال ربع عدد الضحايا ــ أصبح العالم في حالة من الاستقطاب. فيستحضر المدافعون عن تصرفات إسرائيل حقها في حماية مواطنيها من الهجمات الإرهابية، ويحتج المعارضون بأن لا شيء على الإطلاق يبرر القتل الجماعي للمدنيين وتدمير البنية التحتية الأساسية.
وليس من المستغرب أن يعيش المجتمع الإسرائيلي الحالة نفسها من الاستقطاب. ففي حين تحشد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حملات «الهسباره» (الدبلوماسية العامة أو التبرير، وفقاً لوجهة نظرك) وتعمل على تقوية موقفها، ينزل الناشطون من أنصار السلام إلى شوارع المدن الإسرائيلية. ويُعرِب إسرائيليون من شتى مناحي الحياة، وأعداد متزايدة من يهود الشتات، عن رفضهم الصريح العلني لما أسموه انتهاكات إسرائيل المتكررة للقانون الدولي والظلم المجحف الكامن في ما وصفوه بأنه نظام من مستويين للمواطنة وإنفاذ القانون.
الواقع أن الوقت الحاضر يشهد نشوء مواقف ما كان المرء ليتصورها ذات يوم. فمؤخراً على سبيل المثال، وَقَّع أكثر من خمسين من جنود الاحتياط الإسرائيليين على عريضة أعلنوا فيها رفضهم الخدمة العسكرية، واستشهدوا في هذه العريضة بالعديد من أشكال القمع ولكنهم سموا على وجه التحديد النظام القانوني المزدوج الذي يميز ضد الفلسطينيين والطبيعة «الوحشية» التي يتسم بها الاحتلال العسكري. وقد انضموا إلى عدد متزايد من الجنود الإسرائيليين السابقين الذين وصفوا بالتفصيل الظلم والإذلال اليومي الذي يخضع له الفلسطينيون.
وفي معترك آخر، من المقرر أن يُعقَد مؤتمر في نوفمبر/تشرين الثاني في مدرسة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية بعنوان «تحدي الحدود: دولة إسرائيلية/فلسطينية واحدة». وسوف يطرح المؤتمر فكرة إقامة مجتمع علماني ديمقراطي متنوع على غرار مجتمع ما بعد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وهي الرؤية التي استقبلها الشباب من التقدميين في إسرائيل ويهود الشتات والفلسطينيين بقدر متزايد من الاهتمام والأمل. وإذا لم يكن بوسعنا بعد أن نعدٌ هذه الرؤية حلا، فهي تمثل حواراً جديداً في الأقل ــ وهو الحوار الذي يشكل تحدياً مباشراً للمؤسسة الإسرائيلية اليمينية وأنصارها في الخارج.
بطبيعة الحال، تفضل المؤسسة الإسرائيلية تجاهل هذا التحدي. ففي أعقاب واحدة من أكثر ليالي «عملية الجرف الصامد» الإسرائيلية فتكاً في غزة ــ والتي وصفها العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان بالمجزرة ــ سعت قوات الشرطة، متعللة بـ»مخاوف أمنية»، إلى منع ما يقدر بنحو عشرة آلاف شخص من التجمع في شوارع تل أبيب لمعارضة ما أطلق عليه المنظمون وصف الاحتلال غير المشروع والحملة العسكرية ضد الفلسطينيين. وواصل المحتجون تظاهرهم من دون وقوع أعمال عنف.
ولم يكن الفلسطينيون الذين تظاهروا في الضفة الغربية في الوقت نفسه محظوظين بالقدر نفسه. فوفقاً لرواية المحتجين هناك واجهت قوات الشرطة والجنود الإسرائيليون المسيرات بطلقات الرصاص الحي؛ ومع نهاية تظاهرات ذلك اليوم بلغت حصيلة القتلى بين المتظاهرين الفلسطينيين خمسة.
على الرغم من العقبات التي يواجهها نشطاء السلام الإسرائيليون ــ بما في ذلك التخويف والترهيب والعنف من قِبَل القوميين اليمينيين ــ فقد ثابرت حركتهم. ولكن من الأسهل برغم ذلك بالنسبة لأناس تدربوا على كراهية بعضهم البعض أن يتواصلوا عبر الفضاء الإلكتروني لا أن يجتمعوا معاً في بيئة واقعية. فعلى موقع فيسبوك، تهتم صفحة «إسرائيل تحب فلسطين»، والتي يبلغ عدد المعجبين بها نحو ستة وعشرين ألف معجب، بتوثيق المسيرات والاجتماعات وغير ذلك من التحركات المؤيدة للفلسطينيين والمعارِضة للظلم الإسرائيلي الملحوظ. كما اجتذبت صفحة «فلسطين تحب إسرائيل» ــ التي تحمل شعار «كفى! أوقفوا الحرب» ــ العدد نفسه من «المعجبين» تقريبا.
ولكن أي حركة سلام نشطة، يدرك المنتمون إليها من الإسرائيليين والفلسطينيين المصالح المشتركة ويعملون على صياغة مناقشات جديدة تهدف إلى إنهاء صراع دام عدة عقود من الزمان، قد لا تكون كافية لمنع التطرف المتنامي، وخاصة على الجانب الإسرائيلي. فوفقاً لاستطلاع رأي أجري في يوليو/تموز بواسطة معهد الديمقراطية في إسرائيل في جامعة تل أبيب، يعتقد أكثر من 95% من الإسرائيليين اليهود أن عملية الجرف الصامد مبررة، في حين يعتقد أقل من 4% أن إسرائيل استعملت القوة المفرطة. والواقع أن ما يقرب من 50% من المستجيبين للاستطلاع ذكروا أنهم يرون أن القوة المستخدمة ليست كافية.
ومن الأهمية بمكان هنا أن نلاحظ التحول المزعج الذي طرأ على الخطاب المستعمل من قِبَل بعض الإسرائيليين ويهود الشتات لتبرير الهجوم العسكري على غزة، والأمثلة على هذا التحول وفيرة. فقد أكَّد أحد الأعضاء اليمينيين في الكنيسيت الإسرائيلي أن المدنيين في غزة لابد أن «يمحوا»، على أساس أن لا أحد هناك بريء. ودافعت الممثلة الهزلية الأميركية جون ريفرز بكلمات فظة عن قصف المدنيين في غزة. ومؤخراً، قال تومر سيونوف، وهو صديق أحد الجنود الإسرائيليين القتلى، لصحيفة الجارديان: «لابد من قتل كل شخص في غزة».
تُرى ما مدى خطورة مثل هذه الأحاديث؟ يقول المؤرخ الإسرائيلي مايكل أورين، وهو سفير إسرائيل الأسبق إلى الولايات المتحدة: «في السيناريوهات الكلاسيكية لنزع الصفة البشرية، سواء في ألمانيا النازية، أو في رواندا قبل الإبادة الجماعية، تشير إلى أعدائك بأوصاف مثل الجرذان والصراصير، وهذا من شأنه أن يمكنك من قتلهم على نطاق واسع». ثم يضيف أورين «نحن لا نسمي الفلسطينيين صراصير».
ولكن ليس اختيار النعوت هو الذي قد يدفع الناس إلى تأييد القتل الجماعي للمدنيين. فالمهم في الأمر هنا هو ما إذا كان الخطاب الذي يستعمله الزعماء السياسيون والمنافذ الإعلامية الكبرى مؤطراً في سياق سرد يصور «الآخر» وكأنه يشكل تهديداً وجودياً. فقد ذبح الهوتو ما يقرب من المليون شخص من التوتسي في عام 1994، ليس لأنهم فكروا في التوتسي بوصفهم «صراصير»، بل لأنهم دُفِعوا إلى الاعتقاد بأن التوتسي سوف يبادرون إلى قتلهم أولا.
إن مثل هذا التحول في اللغة المستعملة يعكس ويسهل تقبل فكرة قصف الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس بالجملة. وذات يوم، سوف يتم التحقيق في تفاصيل عملية الجرف الصامد وسوف يسطر التاريخ صفحاته. ولكن قبل أن يحدث هذا، لابد أن تدرك إسرائيل أنها تقف أمام مسارين أخلاقيين مفتوحين. أحد المسارين، والذي يسعى كل الملتزمين بالسلام العادل إلى سلوكه، يقود إلى شكل أرقى من أشكال المجتمع؛ أما الآخر فيقود إلى مكان مظلم للغاية. إن روح الأمة في الميزان الآن.
*لعبت دوراً قيادياً في ما يسمى ب «الموجة الثالثة» النسوية وكداعية من «النسوية السلطة»، الذي يرى أن النساء يجب أن يؤكدن أنفسهن سياسيا من أجل تحقيق أهدافهن. ونصحت الحملات الرئاسية لبيل كلينتون و آل غور. وتشمل الكتب لها جمال الأسطورة، ونهاية أميريكا، ومؤخراً، والمهبل: سيرة ذاتية.